منوعات

ضريبة النجاح.. معاناة الجسم البشري في العصر الحديث

قد يكون من الصعب علاج الأمراض العقلية والجسدية الحالية لكن تفشيها يعد في الواقع علامة مبشرة

ستيفن بوش

البشرية تعاني من نجاحها، فبراعتنا وقدرتنا على الاستمرار في الابتكار تعني أن معظمنا يعيش جغرافياً وتقنياً على بعد مليون ميل من البيئة التي تكيفنا وتطورنا فيها.

مقالات ذات صلة

أحد الأسباب التي تجعل المجتمعات الحديثة والغنية تعاني من ارتفاع معدلات السمنة، مثلاً، هو أن الجسم البشري تطور ليتناسب مع نمط حياة الصيد وجمع الثمار، وعندما نجد أنفسنا في بيئة مليئة بالأطعمة الشهية والوفيرة والمقاعد المريحة فإننا نكتسب وزناً زائداً.

وغالباً ما يشار إلى السمنة، إلى جانب تصلب الشرايين وهشاشة العظام وأنواع من السرطان والسكري من النوع الثاني، بأنها «أمراض العصر».

وبالطبع فإن البعد الشديد عن البيئة التي تطورنا من أجلها يشكل صفقة رائعة لجميع البشر، ولأنني شخص مريض للغاية فقد جلست وفكرت في الوقت الذي كنت سأموت فيه بالقرون الماضية، حتى قبل أن أضع في الحسبان احتمالات تورطي في نوع من الجرائم العنيفة أو تجنيدي في حرب.

وخلال أي لحظة قبل اكتشاف البنسلين عام 1928 كنت سأموت في سن السابعة على أفضل تقدير، فالعدوى البكتيرية كانت محصورة نسبياً، وغير مؤلمة آنذاك. ويحتمل أنك أيضاً كنت ستفقد حياتك قبل قراءة هذه الجملة بفترة طويلة (وسواء كان الطب الحديث نعمة أو نقمة، فهذا متروك لك، لكن من وجهة نظري فإن اكتساب بعض الوزن يمثل صفقة جيدة للغاية).

أمراض الحداثة تمثل مشكلة خاصة للدول، وغالباً فإن السؤال الذي تصمم دول الرفاهية للإجابة عنه هو «كيف يمكننا علاج أسباب اعتلال الصحة دون دفع الناس للفقر المدقع بسبب تكلفة المرض؟»، لكن الأجوبة تجيء من عصر كان يتم فيه توزيع المضادات الحيوية، وبتر الأطراف ودفن الناس بعد الإصابة بسكتة دماغية أو نوبة قلبية، والواقع أن التكلفة الفادحة لمواجهة هذا التحدي الآن هي جزء من سبب استمرار ارتفاع نفقات الرعاية الصحة في دول العالم الغنية.

كما أن الحالات الحديثة التي تتسم بتشخيصات محيرة بطبعها، مثل الاكتئاب والقلق، تشكل تحديات صعبة، فالشرايين إما أن تكون متضررة وإما سليمة، والجسم البشري إما أن ينتج الأنسولين وإما لا. وتتزايد الأدلة على أن الاكتئاب يسبب أيضاً تغييرات قابلة للقياس في نشاط الدماغ، وكذلك الحزن، وهي حالة يعتبرها العديد منا جانباً صحياً من حياتنا العاطفية، وليس جانباً سيئاً. وبينما يمكننا دراسة عظام الموتى منذ زمن بعيد، والسجلات الطبية من قرون مضت واستخلاص استنتاجات قيمة حول الأمراض، إلا أنه لا يمكن الجزم حيال الأمراض العقلية.

وهذا يشير إلى أنه رغم وجود مناقشات عديدة حول كيفية دفع تكاليف التدخلات الطبية لمكافحة أمراض الحداثة، ومن يتحمل هذا العبء، فإن قلة من الناس تجادل في أن هشاشة العظام ليس حقيقة، وانسداد الشرايين أو التالفة يمكن التغلب عليه بقوة الإرادة، فالمناقشات حول مصادر التمويل معقدة بما فيه الكفاية، أما تلك التي تدور حول ضرورة مثل تلك النفقات فهي تمثل مستوى مختلفاً تماماً من التعقيد.

وفي عام 2024 سيكون هناك بلا شك المزيد من التشخيصات الرسمية للصحة العقلية، مقارنة بعام 1621، عندما وصف الباحث روبرت بيرتون في كتابه «تشريح الملنخوليا» أو «تشريح الكآبة» بأنها مرض «خطير وشائع للغاية»، لكن لا يمكننا بسهولة التأكد من أن زيادة التشخيصات ستضيف أي شيء بخلاف زيادة السجلات والمعرفة الطبية.

هناك أيضاً زيادة عدد الأطباء بشكل كبير وأسباب أقل بكثير لما وصفه بيرتون بالكآبة «المزاجية»، ففي الوقت الحاضر أصبحنا أقل عرضة لفقدان طفل أو المعاناة من آلام غير مبررة. وإذا تمسكنا بتعريف بيرتون، والذي أراه منطقياً، بأن الاكتئاب سمة من سمات حالة الراحة، فإن الشخص العادي في القرن السابع عشر قضى وقتاً أطول في حالة من الحزن أو الألم، وبالتالي كان لديه وقت أقل لإدراك أنه كان يعاني من مرض بيرتون الخطير والشائع.

ومثلما هو الحال مع انسداد الشرايين وداء السكري من النوع الثاني فإن تزايد معدلات تشخيص الصحة العقلية يشكل عموماً معضلة إيجابية يجب مواجهتها.

وصحيح أن هذه الحالات تفرض تكاليف ضخمة على الدول والأسر والشركات أو جميعها، وخلال جهود معالجتها قد يجد بالسياسة أنه من المغري تجنب المحادثات المعقدة حول من ينبغي دفع التكاليف، ومن المسؤول عن معالجة الأمراض الجسدية، لكن لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن الأمراض العقلية الحديثة ليست ملموسة بقدر الأمراض الجسدية: فكلاهما يمثل تحديات نابعة من النجاح، وكان أسلافنا يسعدون بمواجهتها.

زر الذهاب إلى الأعلى