منوعات

الصيام المتقطع.. هل يمكن أن تأكل ما تُريد وتخسر وزنك؟

أحد الهواجس التي تطاردنا في عصر الصورة أن يتلاءم مظهرنا الخارجي مع مقاييس الصورة، الجميع يبحث عن الحِيَل والصيحات التي تجعله يتماهى مع المقبول، والمُتصدِّر، والمطلوب. ولا يُمكننا فصل “الوزن” ومشكلاته عن مشهد الصورة الذي نتحدَّث عنه، فالكل يبحث عن وزن مثالي بلا أي أخطاء، أو لنُكن أكثر عدلا؛ الجميع يُحاول. الفرد منّا يتأرجح بين حمية يحرم بها نفسه من ملذات الطعام فتُحبطه ولا يلتزم بها، وبين صيحة جديدة تنتشر بين مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي الذين يحظون بقواعد جماهيرية كفيلة بأن تجعل أي تجربة فردية موضة تتفشى بين الناس في ظرف ساعة.

ذلك الجمهور الذي يبحث عن الوزن المثالي والحميات الصحية تتقاذفه الطرق المختلفة التي يُروَّج لها أنها صحية، مُفيدة وتحمي من الأمراض، تُطيل العمر وتؤخر من علامات التقدم بالسن، لكنه في كل يوم جديد، يُثبَت فشل وقصور أنظمة كان لها حظ كبير من الانتشار. من الصيحات التي عادت للساحة مُؤخرا “الصيام المُتقطع”، وهو نظام غذائي تردَّد صداه خلال العامين الأخيرين بين فئات عمرية مُختلفة، فهل يُقدِّم النظام حلا سحريا لإنقاص الوزن فعلا؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه صيحة جديدة في عالم الحميات الغذائية المُتغيِّر والمُتقلِّب؟

 

قبل 100 عام، أي قبل عقود من التلوث البيئي والكيميائي والإشعاعي الذي أصبح يُمثِّل مشكلة تؤرق العالم، وفَرَض أعباء صحية جديدة على جسم الإنسان، كتب الكاتب الأميركي آبتون سنكلير كتابه “الصوم المُعالِج” (The Fasting Cure)، الذي يُعَدُّ توثيقا لتجربته الشخصية إلى جانب تجارب الآخرين وتحدياتهم مع الصيام، عن الفوائد والتأثيرات التي أحدثها الصيام في جسده، كما ضمَّن في كتابه العديد من شهادات الشفاء من السرطان التي تُعزى إلى الصيام.(1) وبفضل سنكلير أصبح الصيام المتقطع شعبيا في القرن العشرين، حيث اعتمد على شرب العصائر فقط لتخليص جسمه من السموم. لكن الدكتور ماكس جيرسون، الفيزيائي المتخصص في أنظمة العلاج البديلة للسرطان، عارضه بتصوُّر آخر قائلا: “لا يُمكنك أن تجعل مرضى السرطان يصومون، فإن أجسامهم في حالتهم تكون مستنفدة للغاية، والصوم سيجعلهم يهبطون لأدنى مستويات التعافي”.(2)

في 2012، اعترف مجتمع الصحة واللياقة البدنية بالصيام بفضل جهود الطبيب مايكل موزلي، إثر كتابه الذي نشره في عام 2013 بعنوان “حمية الصيام“. لاقى الكتاب رواجا باهرا، واعتمد الحمية الكثير من المشاهير ونشروا نتائج خسارة أوزانهم، وأصبح موضوع الصيام فيروسيا على الإنترنت، في ظل سعي الملايين للحصول على بعض السحر الذي سيُخلِّصهم من الكيلوغرامات الزائدة خلال أسابيع معدودة.

كان الجزء الأكثر إغراء في نظام الصيام المتقطع، الذي أسهم في زيادة شعبيته بوصفه حمية غذائية هو أنه ليس حمية بالمعنى الدقيق، فالحمية تعني اتباع نظام غذائي معين، ولكن الصيام المتقطع يعتمد على مراقبة متى تأكل ومتى تمتنع عن الأكل دون اتباع نظام محدد، فأنت في الحقيقة ستصوم مدة من الأسبوع (يُسمح خلال فترة الصيام بشرب السوائل)، وتأكل كل ما يحلو لك في باقي الأيام.

نحن نتحدَّث هُنا إذن عن نمط يُقسِّم أسبوعك إلى جُزأين: فترة أكل، وفترة صيام. في فترة الأكل تستطيع أن تأكل أي وجبة اعتيادية، دون أن تحسب سعراتها الحرارية. وفي فترة الصيام تمتنع عن الأكل تماما ويُسمح لك فقط بشرب الماء، الشاي المُر، أو القهوة غير المحلاة، وكذلك أكل الخضر وبعض الفواكه. هناك أنماط مختلفة للصيام المتقطع، تختلف بحسب احتياجات الجسم نفسه، وقدرة الفرد أيضا على تحمُّل هذا النمط الجديد الذي يتبعه، فالجسم معتاد على وجبة إفطار، غداء، عشاء، وبعض الوجبات الخفيفة، واستبعاد وجبة فجأة قد يُصيبك بالإعياء وتقلُّبات المزاج والعصبية، وهذه ردات فعل طبيعية يُظهرها الجسم إلى أن يتعود على نظامه الجديد، أما الأنماط فهي: (3)(4)

نمط 8:16 من ابتكار خبير اللياقة البدنية مارتن بيركان:
أكثر الأنظمة انتشارا ومناسبة للمبتدئين، حيث تمتد فترة الصيام لـ 16 ساعة يُسمح خلالها بشرب السوائل فقط، وفي بعض الحالات يُسمح ببعض الحصص البسيطة من الخضار والفواكه. يستطيع الفرد اعتماد هذا النمط ليومين إلى ثلاثة أيام أسبوعيا.

نمط 2:5 من ابتكار الدكتور مايكل موزلي:
يستطيع الفرد تناول بين 500-600 سعرة حرارية لمدة يومين من الأسبوع، حيث يمكنه استهلاك السعرات الحرارية في أي وقت خلال اليوم -موزعة على مدار اليوم أو خلال وجبة واحدة-، وتناول الطعام طبيعيا لمدة 5 أيام.

نمط “كُل، توقف، كُل” ابتكره خبير اللياقة براد بيلون:

صيام 24 ساعة متواصلة، من الغداء للغداء، أو من العشاء للعشاء. يمكنك القيام بذلك من مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعيا.

نمط صيام الأيام بالتناوب:
كما يُوحي اسمه؛ يوم إفطار ويوم صيام.

حمية المحارب من ابتكار خبير اللياقة البدنية أوري هوفميكلر:
ويعني الصيام طوال اليوم، مع فترة أكل تقتصر على الخضراوات والفاكهة بين الساعة 6-10 مساء، أو لأربع ساعات أخرى يُسمح خلالها بتناول وجبتين صغيرتين فقط.

تحدَّثنا في “ميدان” مع الباحثة في بيولوجيا السرطان والأمراض الاستقلابية في المستشفى الجامعي هايدلبرغ في ألمانيا الدكتورة علياء كيوان لمعرفة المزيد حول الصيام المتقطع، وعند سؤالها مُباشرة عن الفوائد السحرية التي تُشاع حول هذا النمط من الصيام وخصوصا فيما يتعلَّق بالوقاية من الأمراض والسرطان تحديدا قالت: “نعم، هناك العديد من البحوث التي تعمل على دراسة فوائد الصيام المتقطع وأثره على الصحة، وخصوصا في مجال دراسة بعض الجينات المسؤولة عن وظائف فسيولوجية مهمة في الجسم وتلك التي لها علاقة بالشيخوخة ومقاومة السرطان المناعي وتحسين المزاج”. وبذكر الشيخوخة، فإن هناك العديد من الدراسات التي أكَّدت دور الحمية الغذائية في إطالة العمر، ولا نعني هنا نوعا معينا من الحميات، ولكن أهمية الاقتصاد في الطعام وتقليل السعرات الحرارية التي تدخل إلى الجسم عموما. (5)(6) على سبيل المثال: فإن بعض الجينات مثل “sirt1″ و”sirt3” (المسؤولين عن مقاومة الشيخوخة من خلال تحسين عمل الميتوكوندريا) يعملان في أفضل مستوياتهما في نسبة سعرات حرارية قليلة، أي في ظروف الحمية الغذائية. (7)(8)

هذا الخط الرفيع الذي يُفرِّق بين الحمية والصيام مُربك نوعا ما، وهذا الذي دفع الدكتورة “علياء كيوان” لتوضيح السر الذي يُرجِّح كفة الصيام المتقطع على الحميات العادية الأخرى، مُوضِّحة أن فوائد الصيام المتقطع تكمن في القدرة على التحكُّم وتدريب الجسم على الإحجام عن الطعام باستمرار، والقدرة على الالتزام بالحميات الغذائية المناسبة بعد ذلك. وتضرب مثالا توضيحيا: “لو جلس أحدهم في غرفة معتمة تماما فإنه مع الوقت سيُدرب عينه على التركيز أكثر حتى يستطيع التكيُّف ويكون قادرا على إيجاد محتويات الغرفة. وكذلك الحال بالنسبة للأذنين، حيث يستطيع الواحد منا أن يضبط تركيزهما في مكان صاخب أو هادئ على حدٍّ سواء”.

وتُكمل حديثها لـ “ميدان” قائلة إنه في حال الحميات لا يستطيع الفرد خلق حالة التوازن التي يحتاج إليها جسم الإنسان، لأنها مؤقتة، ولأنها لم تفرض عليه موضوع التكيُّف على البيئة الحالية، وتُضيف: “إضافة إلى ذلك، فالحمية تُركِّز على تقليل كميات السعرات، وبالتالي الشعور بالجوع يظل موجودا، بينما في حالة الصيام فإن الجسم يتدرَّب تدريجيا على تقليل الشعور بالجوع، وبالتالي تكون الفائدة للعديد من الوظائف الفسيولوجية أكبر من خلال التوازن الذي يُحقَّق”. هناك العديد من الدراسات التي تؤكد قدرة الصيام على تنظيم عمل هرمونات الجسم مثل الإنسولين، بينما لم يثبت ذلك في حال اتباع حميات أخرى. ولكن مع كل هذا نحتاج إلى دراسات أكثر شمولية لعدد من التجارب السريرية للخروج بإجابة واحدة أكيدة عن دور الصيام المتقطع في تحسين الظروف الصحية والفسيولوجية.

هذا الحديث المتداول حول فوائد الصيام المتقطع يدفعنا للتساؤل حول قدرة الجميع على اتباع نمط سحري يُحقِّق لهم كل ما يريدون: من فقدان الوزن إلى رفع المناعة ومقاومة الأمراض والشيخوخة وحتى زيادة الطاقة وتحسين المزاج. وفي سؤال للدكتورة كيوان عن الحالات التي يُحظر عليهم اتباع أو تجربة هذا النوع من الصيام، أجابت بأن المرضى المصابين بأمراض مزمنة مثل السرطان والسكري وأمراض الضغط وغيرها تستلزم العلاج والمتابعة الطبية إلى جانب الحوامل ومن هم في سن المراهقة، وأردفت: “لا بد أن نعلم أن لكل مريض حالة طبية مختلفة عن الآخر، حتى لو كان يعاني من المرض نفسه، فإذا ناسب الصيام مريضا ما، أو إن كان للحميات أثر في تحسين حالته، فهذا لا يعني بالضرورة أنه سيُناسب مريضا آخر. وللأسف يشيع عرض الحميات على منصات التواصل الاجتماعي للعامة، وهو أمر يمكن أن يكون مؤذيا جدا للمرضى، لذلك الاستشارة الطبية والغذائية مطلوبة وضرورية”.

في نهاية حوارها مع “ميدان” تؤكد الدكتورة كيوان أن هناك ترويجا مبالغا به بالنسبة للفوائد الخيالية للصيام المتقطع، عادة ما يقوم به غير المتخصصين اعتمادا على تجارب فردية وليس على مصادر بحثية. ولكن للإنصاف فإن فوائد الصيام المتقطع موجودة نسبيا، ويُنصح به في العديد من المراكز الصحية العالمية، ولكن يحتاج إلى متابعة أكبر لرؤية نتائج صحية مناسبة على المدى الطويل.

هل لخسارة الوزن أثر حقيقي؟

دعونا نتجاوز قليلا الفوائد الصحية، ليس تهميشا أو تقليلا من أهميتها، ولكن بغرض تسليط الضوء على الوزن، الذي ربما يكون أقل أهمية ولكنه السبب الرئيسي الذي يدفع الكثير لاتباع حميات من الأساس. ومثلما يُبالَغ في الفوائد المنسوبة للصيام المتقطع؛ هل يُمكن أن يُبالغ الناس في النتائج التي يتشاركونها على الإنترنت عن خسارة الوزن الخيالية. في الواقع، حين يُخزِّن الجسم الدهون فهو يُخزِّن الطاقة، وعندما يُحرَم الجسم من الوجبات فإن الجسم يُحاول التأقلم على ذلك واستهلاك الطاقة المُخزَّنة، وهذا يتطلَّب تغييرات في نشاط الجهاز العصبي، إلى جانب العديد من التغيرات الهرمونية التي من شأنها أن تتسبَّب في خسارة وزن حقيقية إذا التُزِم بنمط الصوم، مثل:

هرمون الأنسولين: الذي يزيد بمجرد الأكل، ويعني انخفاض مستوياته في الجسم كفاءة أكبر لعملية حرق الدهون. (9)
هرمون النمو البشري (HGH): ترتفع مستويات هرمون النمو خلال الصيام، حيث تزيد بمقدار 5 أضعاف. هذا الهرمون يمكن أن يساعد في فقدان الدهون وزيادة العضلات. (10) (11) (12)
النورأدرينالين: يرسل الجهاز العصبي هرمون النورأدرينالين إلى الخلايا الدهنية، مما يجعلها تُحلِّل الدهون في الجسم إلى أحماض دهنية يمكن حرقها من أجل الطاقة. (14)(15)
نسعى جميعا للحصول على أجساد مثالية وأجسام صحية، نُجرِّب الحميات المختلفة، ونأخذ المكملات الغذائية، ونواظب على أداء التمارين الرياضية. نحاول أن نسلك درب الوقاية، ونبحث عما يؤخر شيخوختنا، ولا شك أن كل هذه الأمور تستحق محاولاتنا. وبالنظر للصورة الأكبر ولتاريخ الإنسان، نجد أن الصيام كان نمط حياة قديما، قبل اختراع الثلاجات التي تحفظ الطعام، فلم يكن الطعام يتوفر إلا عند الأكل، وتعوَّد الإنسان على أن يكون الصيام جزءا أصيلا من حياته وديانته. تطوَّرت أجسادنا لتتكيَّف مع ندرة الطعام حتى أصبح الصيام مُتأصِّلا في طبيعتنا البشرية. تناول أربع وجبات بصورة منتظمة جديد على طبيعة أجسامنا، ما يجعل الصيام المتقطع صحيا ومُتوافِقا مع طبيعة أجسادنا، ولكن مع القليل من الحذر!

المصدر: قناة الجزيرة

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى