العلماء يسابقون الزمن لصناعة نسخة رقمية مطابقة للإنسان
في عالم «ميتافيرس»، الذي يقول القائمون عليه إنه سيكون عالماً أوسع وأكبر من العالم المادي، سنعيش بنسخ رقمية أبدية من أنفسنا، وهذا أمر- مادياً- يبدو بسيطاً، فكل ما تريده لتعيش في عالم «الخلود الرقمي»، هو أن تتوافر لديك البرامج المخصصة لذلك، إضافة إلى الكاميرات والسماعات وإنترنت فائق السرعة، وبعدها ستصبح قادراً على تصميم نسخة تحاكيك شكلاً لتعيش وتتفاعل بحرية، حتى بعد وفاتك، حيث ستبقى نسختك الرقمية «حية تسعى» في عالم لا حدود له ولا قيود عليه.
من الناحية العملية بات صنع نسخة رقمية منك أمراً ممكناً أيضاً، وجرت عليه العديد من التجارب الناجحة، خاصة مع توافر التقنيات والبرامج التي يمكنها أن تنقل مخزونك العقلي من الذكريات إلى تلك النسخة الرقمية، لتصبح وكأنها أنت بماضيك وحاضرك، وتتحدث مع أصدقائك في عالم الخلود الرقمي. إلى هنا أنت موجود تقنياً في عالم يشبه ما أنت عليه في الواقع المادي، من حيث الشكل، لكن ماذا عن الأحاسيس والمشاعر التي كنت تعيش بها في عالم الواقع.. هل يمكن نسخها ونقلها إلى نسختك الرقمية، أم ستعيش خالداً للأبد بدونها؟
الإجابة جاءت في مقال للعالم الأيرلندي سيان كورك المتخصص في علوم البرمجيات العصبية والتقنية، بدأها بسؤال: ماذا بعد أن نبدأ في تحميل أدمغتنا على أجهزة الكمبيوتر.. هل سنتمكن من تحميل إحساسنا بأنفسنا أيضاً؟ الإجابة في الحقيقة، أن ذلك يشكل حالياً مشكلة كبيرة، تحول دون اكتمال النسخة الرقمية منا، لأنه- حتى الآن- لم يتوصل علماء البرمجيات العصبية ومطوري برامج الذكاء الاصطناعي، تقنيات يمكنها نقل المشاعر والإحساس، وهو ما يهدد تحقيق فكرة «الخلود الرقمي» ويتسبب في مضاعفات كثيرة للنسخ الرقمية منا.
ويعود كورك إلى تسعينيات القرن الماضي قائلاً: إن محاولة العلماء اليوم صُنع نُسخ من أنفسنا، ليست أمراً جديداً، فقد سبقها محاولة «الاستنساخ» البشرى الحقيقي عن طريق الخلايا، لكنها فشلت لأسباب كثيرة، لكن العلماء لم يتوقفوا عن المحاولات، حيث وفرت العلوم والاكتشافات الحديثة مزيداً من التقنيات التي يمكنها أن تتغلب على عوائق الماضي وها هي «نسختك الرقمية» باتت قاب قوسين أو أدنى من الإنجاز، ليعوضوا بها فشلهم في صُنع «نسختك البيولوجية» بالاستنساخ من خلاياك الحقيقية.
سباق العلماء
لكن هل يمكن للنسخة الرقمية من أي إنسان منا أن تصبح هي ذاتها الحقيقة؟ لم يتوقف سباق العلماء للوصول إلى ذلك، لكنهم حالياً يجدون صعوبة في الوصول إلى نسخة رقمية تضاهي في حقيقتها البشرية، والسبب هو أن تطوير أي كيان يجب أن يحتوي على كم المعلومات أو البيانات نفسها الموجود في الإنسان الحقيقي، وهل هذا أمر توصل إليه العلماء حتى الآن؟
بإجابة قاطعة يقول «كورك»: حتى اليوم لم ينجح أحد من العلماء في صناعة نسخة رقمية مطابقة لأي إنسان. والسبب الرئيسي هو عدم التوصل إلى برامج تتيح لهم القدرة على استنساخ المشاعر والأحاسيس، والتي تنشأ من نشاط شبكة من الخلايا العصبية والخلايا الدبقية والأوعية الدموية في الدماغ، وما زال العلماء يقفون أمامها عاجزين عن فك شفراتها، حيث إن هذه الشبكة تنتج معاً العمليات الكهربائية والكيميائية التي تعطينا أفكارنا ووعينا بالمشاعر والأحاسيس.
الذكاء الاصطناعي
ويقول دكتور «كورك»: على افتراض أنه في يوم من الأيام تطورت تقنيات الذكاء الاصطناعي، وأصبحت قادرة على رصد أنشطة الأحاسيس والمشاعر بدقة تامة ونقلها للنسخة الرقمية، فإنها ستكون عملية مكثفة ومكلفة للغاية، حيث ستتضمن تسجيل نشاط كل خلية وكل مادة كيميائية على المستوى الذري. لكن وقتها سيتمكن العلماء من تحويل هذا الرصد الرقمي إلى محاكاة حاسوبية، ما يسمح لنا بشكل أساسي بالاستمرار في الحياة بعد موتنا، حيث ستعتقد نسختك الرقمية أن إحساسها بالذات والمشاعر التي كانت موجودة في جسمك قد تم تحميلها بنجاح.
ومع نجاح ذلك، فالأمر أيضاً ليس بهذه البساطة، ولن تكتمل حياتك الرقمية وتعيش في محاكاة تامة لشخصيتك الواقعية، لأنه في حال تمكن العلماء من تطوير طريقة رصد الدماغ بشكل مثالي (دون تدميره)، فإن عقلك الأصلي وشعورك بالذات سيظل محاصراً في جسم سيفشل في النهاية أي سيموت في العالم الحقيقي، وبالتالي سينقطع عن نسختك الرقمية نقل أي تطور في المشاعر والأحاسيس إليها، ووقتها ستدرك شخصيتك الرقمية أنها كتلة ثابتة من المشاعر والأحاسيس، ما يتسبب في أزمة كبيرة تجعلها تعيش وكأنها في زمن ثابت لم يتغير، وهو ما سينتج عنه مضاعفات كبيرة في حال كان الأمر متفشياً في جميع النسخ الرقمية.
100 نسخة رقمية
وتبقى مشكلة أخرى تتمثل في أنه مع تمني تحقيق حلم الخلود الرقمي، هل سيكتفي الإنسان منا بعمل نسخة رقمية واحدة منه.. ماذا لو قرر شخص ما عمل 100 نسخة من نفسه؟ كيف ستعيش هذه النسخ جميعاً في عالم الخلود الرقمي بنفس الذكريات والأحاسيس والمشاعر؟ وهل كل هذه النسخ ستكون صالحة لـ«الحياة الأبدية» على قدم المساواة؟ بالتأكيد لا، لأنه لو افترضنا هذه النسخ موجودة منك على أرض الواقع ماذا ستفعل عندما تقابل نفسك؟ حينها كل نسخة منك- سواء حقيقية أو افتراضية- ستعطي لنفسها الحق بأنها الشخص الأصلي، وسينشأ تصادم كبير بين كل هذه النسخ ربما يؤدى إلى فنائك من عالم «الخلود الرقمي».
ويقول دكتور «كورك»: لا نعرف حتى الآن الإجابات، فتقنيات الخلود الرقمي ما زالت في بدايتها، ولكن ما أطرحه قد يكون إحدى الطرق للحد من أي تعقيدات محتملة، لتصبح جوانب شخصيتك الرقمية مكتملة قطعة قطعة.
ومع التغلب على كل هذه المشكلات يتبقى الخوف على حياتك الرقمية وخلودك الأبدي من ضغطة على مفتاح الحذف، فالدماغ الرقمي أسهل بكثير في المسح من العقل العضوي.