آراءهاشتاقات بلس

د.محمد النغيمش: ترشيد القرار الحكومي!

عندما سأل أحد الصحافيين، رئيس غرفة التجارة والصناعة محمد الصقر: هل فعلاً مجلس إدارة الغرفة هو من يتخذ القرار السياسي في الكويت؟ صمت النائب البرلماني المخضرم لبرهة، فابتسم ابتسامته العفوية الشهيرة، وقال بدعابة: «يا ريت»! ثم استأنف قائلاً: «نحن (كتجار) ليس لدينا أنياب ولا أظافر، بل لدينا فكر وعقل نحاول من خلالهما ترشيد القرار الحكومي… ليس لدينا أي سلطة على الحكومة». فتحت هذه الكلمة في ذهني آفاقاً وذكريات. إذ كان في السابق يقرن وصف «الحكومة الرشيدة» بعد كل ذكر للسلطة التنفيذية في الإعلام الرسمي العربي.

ولا أعلم لماذا اختفت هذه الكلمة تدريجياً من قواميس الإعلام العربي… هل لأن حكومات المنطقة قد تجاوزت سن الرشد، أم أنها لم تعد «صفة» لائقة تطلقها المؤسسة على نفسها، أم أن الناس لم تعد تستسيغ هذا النوع من الطروحات؟ أياً كان السبب يبقى التحدي الأزلي كيف تكون الحكومة «رشيدة» في قراراتها؟ ولماذا هي أحوج «للقرار الرشيد» من غيرها؟ وماذا يعني أصلاً القرار الرشيد؟ الرشد لغة يقصد به الاستقامة، وعندما تقول العرب «رَشَدَ الرجل»، أي أَصابَ أو اِهْتَدَى أو استقامَ أو عَرَفَ طَريقَ الرشادِ كما يشير قاموس المعاني. ولذلك عندما يضل المرء في الفيافي والقفار يرشده أحدهم إلى طريق النجاة من أتون الصحراء. فكلنا نحتاج إلى شيء من الرشد.
فعلياً الحكومات يجب أن تكون أرشد المؤسسات في البلد، لأن في وسعها الاستعانة بأفضل الحكماء والمختصين. وينبغي ألا تمضي قدماً إلا بالاستعانة بأفضل وأمهر كوادرها ومن يعيش على ترابها. بل إنه كلما كان الأمر جللاً أو ذا تكلفة مادية باهظة ارتفعت الحاجة إلى توخي أقصى درجات الحذر في من نستشير، وانحسرت الأهواء والمصالح الفئوية الضيقة مقابل مصلحة الوطن العليا. ولذا لا نستغرب أن يعلن مسؤول رفيع استقالته لأنه أخفق في مهامه. هو تصرف وطني ونبيل بل وشجاع صار يغيب عن ثقافتنا العربية.

ولتمهيد طريق «الرشد» استفادت الحكومات من فكرة «التدقيق» (auditing) أو الرقابة، وهي مفهوم بديهي قديم في «الرقابة» على الأداء المالي والإداري. وقد عايشت ثمار التدقيق في ترؤسي للجانه المنبثقة من مجالس الإدارة. وقد جاءنا التدقيق من ميادين التجارة قبل انتشار العلم، حيث كانت الناس تتلو شفاهة ما حدث من معاملات لرب العمل. وكلمة «audit» أصلها لاتيني وتعني «يستمع»، أي كان الاقطاعيون والمسؤولون الحكوميون والتجار يستمعون إلى تفاصيل الحسابات للتأكد من دقتها.

وانسحب المفهوم في عصرنا إلى العمل المؤسسي المكتوب عبر ديوان المحاسبة والمراجعة الذي يدون بتقارير رصينة «المخالفات» و«الملاحظات» عن كل شيء تقريراً. والالتزام بهذه التقارير وتقديسها هو إحدى صور الرشد. لا بد من أن تكون الحكومات رشيدة ربما أكثر من الشركات، لأن مصائر البلد وآماله ومؤسساته معلقة بطريقة تعاطيها مع الشأن العام. فكم من بلد ما زال يراوح في مكانه لأنه ما زال ينتظر «حكومة رشيدة»!

 

د.محمد النغيمش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

زر الذهاب إلى الأعلى