ترندهاشتاقات بلس

فيلم «Vivarium».. جنون العزلة في ضواحي العصر الحديث

لطالما كانت الضواحي مكانا مألوفا في أفلام الرعب والإثارة منذ السبعينيات وحتى الآن، بداية من سلسلة أفلام «Halloween» ثم مرورا بثلاثية «Poltergeist»، وعلامات أخرى مميزة مثل «The Stepford Wives» و«Parents». إلا أن ضواحي العصر الحديث أصبحت أكثر شراسة عن نظيرتها في الماضي، حيث بات يحركها جشع الرأسمالية الاستهلاكية وصار العالم جيفة بلا قلب ولا روح.

لا نكاد نستفيق من صدمة الفيلم الإسباني «The Platform» إلا ونمنا على إيقاع صدمات أخرى لها صلة بذات الموضوع. ففي فيلمه الجديد «Vivarium»، لم يكن يتوقع المخرج الأيرلندي لوركان فينيجان، أن يتطابق موضوعه مع حالة العزلة الاجتماعية المفروضة علينا خلال الوقت الراهن بسبب تفشي فيروس كورونا، الأمر الذي جعل العديد من الأحياء والضواحي الشهيرة تبدو وكأنها مدن أشباح خالية من أي حياة.

هذه الوجبة الفانتازية التي يقدمها لنا “فينيجان” في فيلمه، الذي شهد عرضه الأول في مسابقة أسبوع النقاد ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي العام الماضي، خرجت من اطارها السريالي وباتت جزءً أصيلاً من الواقع الذي نعيشه اليوم، ليبرهن لنا أن شريطه السينمائي بات على درجة عالية من القوة والجدية مع ما يجري في الخارج.

تدور أحداث الفيلم الذي يشير اسمه، «Vivarium»، إلى القفص أو الحاوية الزجاجية المعدة مسبقا لإبقاء الحيوانات في ظروف شبه طبيعية كـ”حوض الأسماك”، حول زوجين شابين هما (توم)، يجسده جيسي إيزنبرج، و(جيما)، تلعبه إيموجين بوتس، يجاهدان للبحث عن منزل مثالي للاستقرار فيه، تسوقهما الأقدار إلى أحد شركات التسويق العقاري فيأخذهما مندوب الشركة في جولة تفقدية لمشروع سكني غامض يسمى “يوندير”، حيث يصطف عدد لا نهائي من المنازل جنبا إلى جنب متخذة نفس التصميم واللون وتبدو السحب وكأنها مزيفه، كما لو كان تم برمجة المكان على الحاسوب بشكل رديء. فجأة يختفي السمسار ويكتشف الزوجان أنهما عالقين داخل متاهة لا نهاية لها، لتبدأ رحلة البحث عن مخرج للهروب من هذا الجحيم.

انهيار النمر السلتي
شهدت إيرلندا في منتصف تسعينيات القرن الماضي صعود ما يعرف بالنمر السلتي، نسبة إلى السلالة السلتية التي ينحدر منها السكان الحاليون، حيث نما الاقتصاد بشكل يفوق أحلام وتوقعات الشعب وعاد عشرات الآلاف من الشباب الإيرلندي للعمل في بلادهم مرة أخرى. شيئا فشيئا بدأ الاقتصاد يعتمد على طفرة عقارية جامحة جعلت أسعار الأراضي والمباني تسجل مستويات مرتفعة مبالغاً فيها إلى حد كبير، وأدى انهيار النظام المالي العالمي في 2008 إلى حدوث فقاعة عقارية في إيرلندا، وبدأت المصارف تسجل خسائر كبيرة نتيجة تخلف المقترضين عن سداد الديون.

من هنا، أستهلم لوركان فينيجان في الأساس الخطوط العريضة لقصة فيلمه، حيث خلف انهيار الاقتصاد العالمي ورائه الكثير من الأماكن المهجورة. ففي بعض الأحيان كان هناك شخص أو شخصان فقط يعيشان بمفردهما في هذه المشاريع السكنية الضخمة، غير قادرين على بيع منازلهم، فلا أحد يمتلك المال الكافي بسبب حالة الكساد ولا تقوم البنوك بتقديم قروض الرهن العقاري للأفراد على أي حال. لذلك كانوا محاصرين نوعًا ما ومعزولين عاطفيًا.

ولعل ما أدى إلى حدوث تلك الفقاعة هو جشع الرأسمالية التي جعلت البنوك تتساهل في اصدار القروض العقارية بغية تحصل الأموال بفوائدها لاحقا، وهو ما جعلها تدخل في دوامة لا نهائية من الديون. هذا الوحش الذي خلقه النظام المالي العالمي صوره “فينيجان” في بداية فيلمه بطائر الوقواق، ذلك المخلوق الانتهازي الذي يعيش حياته متطفلاً على أعشاش الطيور الأخرى، ففي غفلة من الزمن تأتي الأنثى وتضع بيضة مشابهة لبيضة الطائر الضحية، ويبدو أن فرخ الوقواق لا يقل دناءة في سلوكه عن والدته، فهو يتحين الفرص بانتظار أن يترك الطير الضحية العش لجمع الطعام حتى يقوم مسرعا بدحرجة بيض أو أفراخ الطائر المضيف ويلقي بها خارج العش وبهذا يحصل على العناية والغذاء لوحده بدون شريك. في الغالب لا تلاحظ الطيور المضيفة انه تم خداعهم، فهم يستمرون في إطعام هذا الوحش حتى يطير ويكرر نفس العملية.

فعلى الرغم من أن الفيلم يبدو منسجمًا تمامًا مع وضعنا الحالي للعزلة العالمية، إلا أن “فينيجان” ركز بطريقة قاتمة على مفهوم النصب العقاري، هذا النوع من الجشع الرأسمالي، حيث تقوم تلك الشركات بمنح الناس ما يظنون أنهم بحاجة إليه، من منزل وحديقة، لكن عقولهم لا تتعدى حدود الأشياء المادية، فهم ليس لديهم القدرة على فهم الإنسانية أو الاحتياجات العاطفية للناس.

«Vivarium».. جنون

الروتين كقوة خارقة
يتحصل الزوجين على احتياجات المنزل من طعام وشراب وإلخ، عن طريق طرد مجهول يتم وضعه يوميا أمام المنزل بواسطة لا أحد، وفي يوم ما يسمعان صوت بكاء من داخل الصندوق وعند فتحه يكتشفان أن بداخله طفل رضيع. سرعان ما ينمو هذا الطفل ليصبح فتى غريب الأطوار يبلغ من العمر حوالي 10 سنوات، دائم الصراخ ونبرة صوته لا تتطابق مع عمره ويحاكي ما يقوله الزوجين دائما. بمرور الوقت نبدأ في ملاحظة أن الصبي يحمل تشابهًا غريبًا مع وكيل العقارات الذي ظهر في بداية الفيلم.

بعد مرور ما يقارب الساعة من ألاعيب الطفل الذي يتصرف على نحو آلي رتيب مثير للاشمئزاز، يعجز والديه المزعومين من اخضاعه للسيطرة وتبدأ حياتهم في التحول التدريجي من سيء إلى أسوأ، روتين موحش يقتلنا ويقتل الزوجين بشفرة باردة تطيح بكل لذة كامنة في حياتهم، ملل قاتم لا يترك سوى ملامح الإرهاق والوهن على وجوه أبطاله منذ اللحظة الأولى الذي تسلل فيها هذا الكائن إلى حياتهم. وهو ما يجعلنا نتساءل في النهاية هل الفيلم يحمل في طياته رسالة تحذير للأزواج الشباب الذين يفكرون في الاستقرار؟ وهل الأمومة قرار اختياري أم فرض محتوم؟

ربما لا يملك لوركان فينيجان وكاتبه المشارك جاريت شانلي، في جعبتهما الكثير من الحيل التي تجعل المشاهد يبدو متأهبا حتى الأمتار الأخيرة من الفيلم، لكنهما يحملان في الوقت ذاته خاتمة لا تشوبها شائبة. من المرجح أن هذا الإيقاع الرتيب للفيلم كان مقصوداً من جانب صناعه، فالاستخدام المكثف لزاويا “عين الطائر” يعزز من مفاهيم عديدة، أبرزها نظرة الاله الذي يراقب باستمرار حياة البشر القابعين داخل صندوق زجاجي ضخم وكأنهم فئران تجارب، دوامة حياتية لا نهائية بمجرد أن تنتهي واحدة تبدأ أخرى جديدة، لا سبيل لنا للخروج منها سوى أن نحفر قبورنا بأيدينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى