آراءهاشتاقات بلس

#مقالات | بهجت العبيدي.. يكتب : “على هامش حواري مع الراحل الدكتور أحمد زويل 1”

مهما مر على الإنسان من أحداث، ومهما التقى من شخصيات، ومهما حاور من مفكرين وعلماء وأدباء، يظل هناك بين هذا كله، حدث له خصوصية نادرة، وشخص له مكانة فريدة،  وعالم له قيمة متميزة.

ومن بين تلك الأحداث، وهذه الشخصيات وهؤلاء العلماء، يبقى حدث لقائي مع الدكتور أحمد زويل هذا العالم الذي منح مصر والعرب جائزة نوبل في العلوم ليظل هو المصري الوحيد والعربي الوحيد كذلك الذي مُنِحَ هذه الجائزة الأرفع عالميا. هو الحدث ذات الخصوصية، والشخص ذو المكانة الرفيعة، والعالم ذو القيمة المتميزة.

لقد تفوق زويل في مجال تخصصه العلمي فمنح الإنسانية، لذلك فهو لم يرحل، فالرحيل غياب، ولن يغيب زويل، لأنه أعطى، ومن أعطى لن يغيب، لقد ترك إرثا للإنسانية، ترك علما، زانه خلقٌ، خلَّف مثلا، ليس في العلم فحسب، بل في انتمائه المصري مرة والعربي أخرى والإسلامي ثالثة،  والإنساني رابعة.

لن أنسى ما حييت اللقاء الذي جمعني بالعالم الكبير بالسفارة المصرية بفيينا، في العام ٢٠١٠، فبدأت كلامي بهذه الجملة: كنت قبلك “محفوظيُّ” الهوى – نسبة إلى نجيب محفوظ – فأصبحت محفوظيٌّ زويليُّ الهوى.

وأكملت، قرأت في إحدى صحفنا القومية – بعد أن حاز أديبنا العالمي نجيب محفوظ على جائزة نوبل – لأحد كتابنا الكبار محللا يقول، إنه لو كان عالمنا المصري – وكان يقصد حضرتك – المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية والذي رُشِّح أكثر من مرة لنيل الجائزة – هو من حصل على نوبل ما كانت الفرحة غمرتنا في مصر كما غمرتنا الآن بفوز محفوظ بها، معللا ذلك بقوله: أن محفوظ يمثل المصرية الخالصة، ولذا فالجائزة هنا خالصة لمصر، مُلَمِّحًا أنه لو حصل عليها زويل فكأني بها وقد شاركنا فيها غيرنا.

وقلت لزويل، فلتعلم أيها العالم الكبير أن فرحتنا بحصولك على جائزة نوبل لم تَقِلّْ أبدا عن تلك التي غمرتنا بفوز أديبنا الكبير نجيب، لأننا لم نشعر يوما بانتمائك لغير مصر الذي ظهر جليا واضحا، في ذلك السلام الوطني الذي عُزِفَ أثناء تقليدك لجائزة نوبل، وتوجهت إليه بثلاثة أسئلة انهيتها بالاعتذار عن الإطالة، فإذا بإجابته قد بدأت بتعليق قال على الملأ فيه: ” بعد كل الكلام الحلو اللي قلته ده طَوِّلْ زي ما انت عايز ”

منتقلا إلى الإجابة عن السؤال الأول الذي كان: هل تنوي – كما يشاع – الترشُّح لرئاسة الجمهورية؟ وكان الإخوان آنذاك يدفعون بأسماء رنانة على رأسها الدكتور زويل مدَّعين أنها تريد الترشح لرئاسة الجمهورية بهدف زعزعة حكم الرئيس الأسبق مبارك: فكانت إجابة الرجل العالم واضحة كل الوضوح ولا لبس فيها حيث أكد أن مصر دولة ديمقراطية ومن حق كل إنسان يرى في نفسه القدرة على القيام بمهام هذا المنصب الرفيع أن يتقدم له وللشعب الرأي الأول والأخيرة في الإتيان به رئيسا، أو لا يمنحه تلك الثقة، أما عنه رغبته هو فأكد على الملأ أيضا أن ذلك لم يخطر بباله، وأن كل إنسان يستطيع أن يقدم كل ما لديه في تخصصه، ويفيد وطنه والبشرية بعطاءاته، وهو ما اختار له المجال العلمي سبيلا.

أما السؤال الثاني الخاص بنهضة مصر العلمية والتي كنت قد قلت أنا فيه: إن العِلْمَ تراكمي ولا نستطيع أن نختزل المسافات ولا الأزمان وعلينا أن نبدأ من حيث النقطة التي نحن فيها، فليس في العلم على حد فهمي قفزات!! منتهيا بـ هل تتفق معي في هذا الطرح؟ وكانت إجابة العالم الخلوق: ربما يكون عندك حق في ذلك، ولكن الفترة الأخيرة من العصر الحديث تسارعت فيها لدرجة كبيرة الاكتشافات العلمية، وهو ما يجعلنا نحقق في عشر سنوات مثلا ما كان لا يتحقق في مائة عام قبل ذلك، وأشار هنا إلى أن الأمر في حاجة إلى إرادة حقيقية من مؤسسات الدولة مرة، ومن المشتغلين في الحقل العلمي أخرى.

أما السؤال الثالث الذي خصصته لما أسميته آنذاك المؤسسة الدينية الموازية، وما يخرج عنها من فتاوى وأفكار، وهل ترى عالمنا الكبير ان لها دور في تخلفنا العلمي؟ فعاد بنا زويل إلى أيام دراسته في جامعة الإسكندرية، وكيف كان في ذلك الوقت المناخ صحي للبحث والتفكير، وتوقف الرجل على أنه لم يسمع في ذلك الوقت.

مثلا، من يحرِّم سماع الأغاني التي كان يعشق منها أغاني أم كلثوم والذي كان يستثمر فرصة وجود أي طالب مصري من بين طلابه ليتحدث معه ويشرب معه ” كوبا من الشاي ” وهما يستمعان لصوت أم كلثوم، أكد زويل أن كثرة الفتاوى التي تنتشر اليوم إن عكست شيئا فإنما تعكس حالة من التيه يعيش فيه مجتمعنا، وأن الكثير من الأسئلة المطروحة ليست من جوهر الدين، كما أكد أن مثل ذلك بالطبع يعيق النهوض عموما.

إن الأسئلة الثلاثة التي طرحتها على الرجل العالم تجاذبتها ثلاث مناحٍ حياتية: العلم، والسياسة، والدين، وكان الرجل واضحا كل الوضوح في الإجابات التي تفضل بها، هذا الوضوح الذي يتفق وخصائص وشخصية العالم، التي تبتعد كثيرا عن الغموض، وتنشد الحقائق التي لا تقبل الجدل.

يتبع….

بهجت العبيدي

كاتب ومفكر مصري مقيم بالنمسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى