لماذا أكتب عن (كذا)؟ هكذا أرد عادةً على من يوجهني– ولو بأسلوب الاقتراح- للكتابة عما يريدني أن أكتب عنه، وكنت أستغرب الرد على سؤالي الاستنكاري لولا اتفاق الموجهين عليه! إنها مسؤولية الكاتب– كما يزعمون- أن يكتب عما يحدث، وأن يرفع وعي قرائه عن كل شيء، خصوصاً– ودائماً يزيد تركيزي بعد كلمة (خصوصاً)- عندما نتعرض جميعنا للحدث نفسه.
لا يخفى على قارئي الذهِنْ أن زملاءه يرتقبون من كتاب المقالات دواءً مسطوراً للداء الذي يغزو العالم الآن، ولعله لا يصدقني إذا قلت إنني لن أدخر سعرة حرارية من طاقتي المختزنة في وسط جسدي الآن، في كشف ذلك الدواء لو كنت طبيباً، ولأنني لا أخوض مع الخائضين اكتفيت بتنفيذ وصايا الأطباء ما وسعني ذلك، فلزمت بيتي إلا لضرورة تخرجني منه متكمماً متقفّزاً ومطهّراً كفّي.
ما لم تكن طبيباً أو متتبعاً للموضة، فإنه لا شيء مفيد أو غير مفيد تستطيع إضافته للسطر الأخير في الفقرة السابقة، إلا في مسألة التزام البيت، التي على ما يبدو أنها جعلت الكثير من الأسر وأربابها يلعنون اللحظة التي قلّدوا فيها المخططات التي حولت أهم مساحات المنزل إلى مضايف مؤثثة بالغالي والنفيس ولا تستخدم إلا نادراً! مساحات كان من الممكن أن تكون راهناً المتنفّس الوحيد للأسرة– بل الأقرب مكاناً ووجداناً- لو كانت هي الأولوية المؤثرة في قرارات التصميم المعماري.
لقد حوّلت الرأسمالية مستخدمي المباني إلى مستهلكي مساحات، استهلاكاً جعل المبنى بدوره فرصة استثمارية تفيض المزيد من الاستهلاك، فصارت المنازل السكنية عمارات مكونة من شقق تقسّمها غرف ضيّقة.
هذا الفكر الاستهلاكي في إنتاج أكبر عدد ممكن من الغرف في أصغر مساحة ممكنة زاد من كلفة المبنى باستغلال كل مساحته البنائية المسموح بها قانوناً واستثناءً! مدوّراً عجلة قطاع التشييد والإنشاء، ليجد المستخدم نفسه محاطاً بجدران تخنقه لثماني ساعات متواصلة، هي ساعات نومه، ليستيقظ هارباً منها، باحثاً عن مباني تقدم له الخدمات ذاتها التي كان من المفترض أن يقدمها المنزل ابتداءً! لتتحرك مجدداً عجلة قطاع التشييد والإنشاء، ولك أن تتخيّل أثر هذا الفكر على علاقات مستخدمي المبنى بين بعضهم.
ولعل من أهم– إن لم يكن أهم- ما يجب أن يراجعه الإنسان المخنوق بالجدران التي تحيط به، هو هد هذه الجدران، ليس الآن الآن! بل غداً غداً، لكن بالطبع ليس بعد غد!