هل يتراجع دورك في سوق الأسهم لحساب الذكاء الاصطناعي؟
يقول المثل الشعبي الصيني إن حكيمين كانا يجلسان سويًا، فقال أحدهما للآخر: “أتعرف أن أهم ما يميزني أن لي عقلًا يستطيع حل أصعب المشاكل وإن عجز الآخرون عن ذلك”، فرد الآخر”أما أنا فلي عقل حريص على تجنب الوقوع في المشاكل وتفاديها”، واتفق كلاهما على أن هذا هو جوهر “الذكاء”.
وعلى الرغم من قدم هذه الحكمة فإنها تنطبق على عالم اليوم، فالذكاء يعني الكثير من الأشياء وهي على سبيل المثال لا الحصر القدرة على الاستنباط والتحليل وربط العناصر ببعضها البعض، والتوصل لحلول للمشاكل والابتكار واستقراء الماضي وإسقاطه على الحاضر وتوقع المستقبل.
توسع تدريجي ولكن
ولا شك أن كل هذه المهارات ترتبط بشدة بسوق الأسهم، بما يجعل الحديث حول استخدام الذكاء، ولكن هذه المرة الاصطناعي أمرًا مهمًا للغاية مع تنامي دور روبوتات التداول بشكل تدريجي والحديث حول دورها المتزايد و”الحتمي” في المستقبل.
ويجب ملاحظة أن استخدامه يتوسع بالفعل في عالم الأسهم والاستثمار، إلا أنه يبقى نسبة ضئيلة من إجمالي سوق الذكاء الاصطناعي، والذي من المتوقع أن تبلغ عوائده 450 مليار دولار بحلول عام 2025، ويركز بصورة أكبر على خدمات في مجالات مثل الرعاية الصحية والتجارة الإلكترونية والخدمات اللوجستية وسلاسل التوريد والنقل.
وتكشف دراسة لـ”ماكنزي” أن الإنفاق على تدريب الذكاء الاصطناعي في المجالات المالية يتزايد بشكل مستمر، حيث من المنتظر أن يصل إلى 2.3 مليار دولار في عام 2025، في ظل توقع أن يتمكن خلال العقد الحالي من تحسين إيرادات الشركات المالية والمستثمرين الأفراد بنسبة قد تصل إلى 30%.
وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن أكثر من 50% من الشركات المالية في الولايات المتحدة تستخدم برامج للذكاء الاصطناعي بدرجات انخراط مختلفة في اتخاذ القرار، من المشورة غير الملزمة حتى بيع وشراء الأسهم بشكل مستقل.
ويبقى السؤال هل استخدام الذكاء الاصطناعي في الاستثمار بصورة عامة وفي سوق الأسهم بصورة خاصة فعال حقا؟
عيوب واضحة
وتشير الدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي المفتوح يعاني نفس عيوب وتحيزات “المستثمر العادي” نظرًا لأنه يستقي معلوماته ويبني طريقة استنتاجاته من مصادر المعلومات العامة والمفتوحة ولا يخضع لـ”تعليم” متخصص، بل يقوم إما بالحصول على المعلومات بنفسه، أو بمساعدة آلة التعليم الخاصة به “غير المتخصصة”.
وبناء على ذلك يمكن فهم التضارب في النتائج التي ظهرت عند استخدام مستثمرين لبرنامج “تشات”جي.بي.تي” في شراء الأسهم، حيث كشفت دراسة أنه تمكن من تحقيق أرباح بنسبة 1% في المتوسط، وتفوق على أكثر من 95% من المستخدمين، بينما كشفت دراسات أخرى أنه حقق أقل من المتوسط وعانى الخسائر.
ويرجع هذا إلى اختلاف قدر المعلومات الذي تم تزويد برنامج الذكاء الاصطناعي بها بالأساس، ففي حالة تحقيقه أرباحاً فذلك لأنه تم تزويده بكم كبير من المعلومات المتعلقة بالشركة والشركات المنافسة في نفس القطاع، وبيانات الاقتصاد الرئيسية بل وكيفية عمل ربط بينهم جميعا، أما في حالة تكبد الخسائر فتم الطلب منه اختيار الأسهم أو تقييمها دون إمداده بالمعلومات اللازمة وتركه ليعتمد على قدراته وحدها.
وعلى ذلك تشير التقديرات إلى أن نسب نجاح الاصطناعي تتزايد بشكل واضح مع إمداده بمعلومات أكثر في مقدمتها استراتيجية المستثمر، ومدى صحة هذه المعلومات وجودة الخوارزميات التي تقوم بتحليل هذه البيانات المتعددة والتي تتضارب أحيانًا.
نموذج مختلف
أما في المقابل فترتفع نسب النجاعة كثيرًا مع استخدام الذكاء الاصطناعي “المتخصص” أو المغلق، أي ذلك الذي يقوم على تغذيته مجموعة من المحللين الماليين بعيدًا عن تأثيرات الانحيازات المنتشرة على شبكة الإنترنت وهم أكثر معرفة بالتأكيد في الشؤون المالية من موظفين آلات التعلم في أنظمة الذكاء الاصطناعي المفتوحة.
ويمكن أن نضرب هنا مثلًا بصندوق تحوط “رينيسانس تكنولوجي” وهو شركة أميركية تدير استثمارات تصل إلى 130 مليار دولار، وعلى الرغم من نشأتها قبل أكثر من 40 عامًا فإن سطوع نجمها بين كبار الشركات المالية في الولايات المتحدة جاء بعد ظهور الذكاء الاصطناعي وتطور تطبيقاته.
فالشركة عُرفت في أول الأمر على أنها شركة لراغبي المغامرة أو الاستثمار عالي المخاطرة، وذلك من خلال إقرارها لنماذج محاسبية وإحصائية تعتمد على استقراء ماضي الأسواق لتطبيقه على توقعات المستقبل، ووصل الأمر إلى تحقيق بعض عملائها لأرباح وصلت 35% سنويًا، بينما تكبد آخرون خسائر 40% سنويًا.
ولذلك لم تستحوذ الشركة على ثقة كبار مستثمري السوق الأمريكية، ومع استقرار نظام التعلم الذي تستخدمه، بدأت نتائج الشركة تصبح أقل تطرفًا مع متوسط ربحية يتخطى 20% سنويًا، مع ملاحظة أن نظامها للتعلم الآلي بدأ منذ عام 1989 بما يجعله نشطًا في السوق منذ أكثر من 34 عامًا (من المنتظر أن تبلغ أرباح الشركة هذا العام رقمًا قياسيًا بنسبة 67% وفقًا لتقديرات “ياهو”).
والشاهد هنا أن نظام شركة ” رينيسانس تكنولوجي” يبدو فريدًا في ظل اعتماده على التداول قصير المدى واستغلال الأنماط، خلافًا لبرنامج ذكاء الاصطناعي الأشهر في عالم الأعمال “علاء الدين” الذي تملكه “بلاك روك” ويركز على الاستثمار وليس المضاربة.
وعلى الرغم من نجاح واضح لنظام الذكاء الاصطناعي الخاص في “رينسانس تكنولوجي”، فإن مؤسسها “جيم سيمونز” يرجع أكثر من 90% من نجاح شركته في مجالها إلى حسن اختيار وتوظيف الأفراد الموهوبين في مجال البحث عن الاختلالات في سوق الأسهم، ودراستها وتحليلها ثم إمداد الذكاء الاصطناعي بالبيانات والاستنتاجات معًا، بما يحسن من قدرة الأخيرة على الخروج بنتائج أقرب للحقيقة والواقع.
ويشير “سيمونز” إلى أن ثروته البالغة 30 مليار دولار، وتأسيسه لشركته جاء بسبب إصراره على اختيار العنصر البشري بعناية، مضيفًا إلى أنه يوجد عشرات إن لم يكن مئات النماذج من الذكاء الاصطناعي في عالم المال، لكن القليل للغاية منها الناجح، وذلك بناءً على كفاءة “مدرسي” آلة التعلم للذكاء الاصطناعي، وبالتالي على كفاءة العنصر البشري أيضا.
تراجع الفاعلية
وبشكل عام يرى البعض أن فاعلية الذكاء الاصطناعي تبرز أكثر في المضاربة وليس الاستثمار، ولذلك ازدهار استخدام الذكاء الاصطناعي في منصات تداول العملات الرقمية بدأ في توفير مساعدة واسعة من الـBOTS أو حسابات التداول الآلي الإلكتروني، مثلما يحدث على منصتي “بينانس” و”كوكوين”.
فهنا يستغل الذكاء الاصطناعي قدرته الاستثنائية على التعامل مع كم كبير من البيانات، ولكن يلاحظ أن نسبة نجاعة Bots سوق العملات الرقمية تراجعت من نسبة تفوق 90% لدى البدء في استخدامها في بعض المنصات عام 2018 إلى نسبة تقل عن 10% حاليًا وهي مستمرة في التراجع.
ولعل السبب وراء هذا التراجع –والذي من المنتظر أن يستمر وينطبق على سوق الأسهم أيضا- هو أن الذكاء الاصطناعي ينافس بعضه بعضًا مع تغذيته بالبيانات نفسها، وبالتالي تتشابه المخرجات والقرارات بما يؤثر سلبًا على العائدات، بجانب أن الكثير من المتداولين الأفراد الذين لا يلجأون للذكاء الاصطناعي أصبحوا يتحوطون لتأثيره بشكل أو بآخر.
ولعل منصة “كوانتوبيان” (quantopian) التي أغلقت أبوابها عام 2020 نموذجًا على مضار الاعتماد الأعمى على طريقة عمل الخوارزميات التي يولدها الذكاء الاصطناعي، حيث جاء إغلاق أبوابها بسبب تراجع النتائج التدريجي بما جعل الكثير من المستثمرين يطالبون بدرجة أكبر من التدخل في إدارة استثماراتهم، بما قوض نموذج وآلية عمل الشركة القائمة على الذكاء الاصطناعي.
واللافت أن باحثين لدى “كوانتوبيان” حذروا في ورقة أعدوها عام 2016 من أنه على الرغم من تحقيق الشركة لأرباح تخطت 15% فإنه “ليس كل ما يلمع ذهبًا”، وإن استراتيجية الشركة ستخفق مع الوقت وتوسع استخدام الذكاء الاصطناعي والتحوط له، وهو ما حدث بالفعل في إغلاق الشركة لأبوابها بعد أربع سنوات فحسب.
وهناك طبعا نظام “علاء الدين” الذي يقدم نموذجًا استثنائيًا برعاية عملاق الاستثمارات “بلاك روك” نظرًا لتخصصه فقط في الأمور المتعلقة بالاستثمارات، ولكن هذا الأمر لا يخلو من مخاطر أبرزها عمليات البيع والشراء المنسقة والانهيارات الكبيرة المفاجئة بسبب حرص هذا النظام على صعود السوق.
وبشكل عام يبدو أن التوسع في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في المستقبل –ربما القريب- هو أمر لا مفر منه، ولكن يجب على المتداول –إذا قرر اللجوء إليه- التمييز بين أنواعه واختيار الأنسب بدقة، ربما بالطريقة التي ينتقي بها مستشاره المالي حاليًا، وإن بقت مخاوف حقيقية وكبيرة وربما محققة مرتبطة بالتوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي في عالم المال.