BBC – المزارعون الأمريكيون تقدما سريعا في اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي في زراعة الأراضي، والاستعانة بالتكنولوجيا المتطورة التي أصبحت ضرورة في الوقت الراهن.
وقف مزارع في حقل خصب يقع في الغرب الأوسط الأمريكي، موجها هاتفه الذكي نحو نبتة من نباتات فول الصويا الخاصة به، والتقط صورة لآفة تزحف على ورقة شجر، ثم استعان ببرنامج يعتمد تقنية الذكاء الاصطناعي في تحديد نوع الحشرة، بغية معرفة إذا كان ثمة أي شيء يدعو إلى القلق منها أم لا.
يعاني قطاع الزراعة عموما، الذي تهدده ندرة الأيدي العاملة اللازمة، من نقص الربحية وتراجع إنتاج المحاصيل، أو بعبارة بسيطة لا يوجد ما يكفي من الأيدي العاملة لدعم أنظمة زراعة المحاصيل الغذائية لإطعام العالم، وهي مشكلة تعاني منها الولايات المتحدة، التي تعد ثالث أكبر دولة في العالم، بعد الصين والهند، من حيث الإنتاج الزراعي.
كما يعد كبر سن المزارعين، من بين المشكلات الأخرى التي تواجه القطاع الزراعي، لا سيما في ظل عدم استطاعة كثيرين منهم أداء أعمال يدوية لازمة تحت وطأة أشعة الشمس وحتى غروبها لإدارة المزرعة بشكل فعّال، وعلى الرغم من أن الكثير من هذه المهام كانت تدار بتعاون أفراد العائلة على مدار عقود، إلا أن الأجيال الشابة لم تعد تهتم باستلام زمام الأمور من كبار السن كما كان الوضع في السابق، بل يميل الشباب إلى اختيار وظائف في صناعات أقل كثافة من حيث العمالة تدر عليهم أجورا أفضل، وهو ما تتبعه أيضا العمالة المستأجرة، التي تشكل بقية القوى العاملة الزراعية، وأغلبها من المهاجرين.
وتقول إميلي بوكمان، مديرة الشؤون الحكومية في رابطة مكاتب المزارع الأمريكية، وهي رابطة تجارية صناعية: “العمالة هي مصدر القلق الأبرز، فمتوسط عمر المزارع حاليا 60 عاما”.
نشأت بوكمان نفسها في مزرعة في ولاية كنتاكي الأمريكية، ولا يزال والدها البالغ من العمر 70 عاما يعمل في زراعة الأرض، ولم يساعده سوى شقيقها.
ولحل المشكلة، لا سيما في ظل تراجع الأيدي العاملة وارتفاع التكلفة أيضا وتراجع غلات المحاصيل، يتطلع بعض المزارعين الأمريكيين إلى الاعتماد على أجهزة الروبوت وأدوات الذكاء الاصطناعي.
وتقول بوكمان: “نفكر في حلول لهذه المشكلة، ونعتقد أن التقدم التكنولوجي يمكن أن يساعد في تخفيف بعض أعباء العمل”.
ولا تعد الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في الزراعة شيئا جديدا بالكامل، فقد استُخدم بصفة مبدئية على مدار 20 عاما، كان من بينها الاستعانة بأنظمة التوجيه التلقائي لتجميع محاصيل مثل الذرة، بيد أن تبني الذكاء الاصطناعي في السنوات الماضية أحرز تقدما سريعا، وفقا لبعض التقديرات التي رصدت استخدام 87 في المائة من الشركات في قطاع الزراعة الأمريكي الذكاء الاصطناعي بشكل أو بآخر، اعتبارا من أواخر عام 2021.
كما تشجع الحكومة الفيدرالية حاليا استخدام التكنولوجيا في تسريع نشاط القطاع الزراعي من خلال توفير حوافز مالية تحقق الهدف وتسهم في تطوير ونشر الذكاء الاصطناعي في شتى أرجاء البلاد.
وإذا نجحت الجهود الرامية إلى تبني استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في نحو مليوني مزرعة أمريكية، فسوف يعود ذلك بفائدة كبيرة على بقية دول العالم، لا سيما مع تزايد عدد الأفواه التي يجب إطعامها في شتى أرجاء العالم، فضلا عن تهديد تغير المناخ للنظم البيئية الزراعية لدى بعض كبرى المناطق الزراعية، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، التي صدّرت ما يزيد على 100 مليار دولار من المنتجات إلى الصين والمكسيك وكندا وأوروبا العام الماضي وحده.
وتقول بوكمان إن الهدف يكمن في تطوير واعتماد تكنولوجيا جديدة على نطاق واسع تكون ميسورة التكلفة يمكن الاستفادة منها “حتى يتمكن المزارعون من إطعام العالم، فمن المفترض أن يزيد عدد سكان العالم بنحو ملياري نسمة بحلول عام 2050، مما يعني أننا سنحتاج إلى زراعة غذاء أكثر بنسبة 70 في المائة مقارنة بالوضع الراهن. وسوف تساعدنا التكنولوجيا المتطورة في عمل ذلك”.
“خطوات طموحة”
يواجه القطاع الزراعي ضغوطا كبيرة تهدف إلى البحث عن حلول وبسرعة، بعد أن دفع تراجع الأيدي العاملة في الولايات المتحدة بالفعل إلى اتخاذ مثل هذه الخطوات، بيد أن أزمة المناخ تمثل نقطة تحول أخرى، إذ أدى تقلب الطقس إلى زيادة صعوبة التنبؤ بظروف نمو المحاصيل وأضر بإنتاجيتها، وبعبارة أخرى، قد يسهم الطقس الحار في تراجع كميات الغذاء، خلال فترة زمنية أقرب مما كان متوقعا.
ويقول باتريك شنابل، الأستاذ في جامعة ولاية أيوا الأمريكية ومدير معهد علوم النبات: “تظهر جميع التوقعات وجود خسائر كبيرة في غلات المحاصيل بسبب تغير المناخ”.
ويضيف: “تراجع إنتاج الذرة بنسبة 10 في المائة أو 20 في المائة سيكون كارثيا، لذا فالسؤال هو: هل يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الزراعة المرنة؟”
وتعد ولاية أيوا الأمريكية مقرا لمعهد الذكاء الاصطناعي للزراعة المرنة، الذي يعمل على تطوير أدوات وتقنيات تعتمد على الذكاء الاصطناعي بالتعاون مع مؤسسات شريكة في شتى أرجاء الولايات المتحدة، بدعم من المؤسسة الوطنية للعلوم ووزارة الزراعة الأمريكية.
ويقول شنابل: “ينصب جُل تركيزنا على مشكلتين كبيرتين، أولهما هو مشكلة تحديد الاستدامة، أو بمعنى آخر كيف يمكنك تصميم أنشطة جديدة ذات صلة بالزراعة تكون قادرة على الصمود في مواجهة تغير المناخ”.
ويضيف: “ثانيهما هو كيف يمكن للذكاء الاصطناعي وأجهزة الروبوت وتقنيات الاستشعار تعزيز الأرباح للمزارعين، بأقل استخدام للموارد والطاقة والمواد الكيميائية والمياه.”
ويقول باسكار جاناباثيسوبرامانيان، مدير معهد الذكاء الاصطناعي للزراعة المرنة، والأستاذ في قسم الهندسة الميكانيكية بجامعة ولاية أيوا، إنه فيما يتعلق بمعالجة هذين الهدفين، “توجد خطوات طموحة بالفعل، وبعضها قيد التنفيذ”.
وتقول بوكمان إن الطائرات المسيّرة وأدوات نظام تحديد المواقع تعد من أدوات الذكاء الاصطناعي الأكثر انتشارا في السوق حاليا، بيد أن ثمة أشياء أخرى أيضا، من بينها الجرارات والحصّادات ذاتية القيادة، وأيضا أجهزة الاستشعار عالية الجودة المزودة في تلك الآلات، والتي يمكن أن تساعد المزارعين في تحديد أي أنواع من محاصيلهم تحتاج إلى اهتمام أكثر أو أقل من غيرها.
كما توجد أجهزة روبوت تستطيع إجراء عمليات الفرز الآلي التي كانت تتطلب في السابق توافر عمالة بشرية، فعلى سبيل المثال، تستفيد بعض المزارع من تقنية الذكاء الاصطناعي لفرز البطاطس، والبحث عن عيوب معينة، كما يستخدم آخرون أدوات زراعية معززة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لزراعة البذور وإزالة الأعشاب الضارة من الحقول، وهو ما يمكن أن يحل محل العشرات من العمال البشريين بشكل فعّال.
تربة خصبة للذكاء الاصطناعي
يعد استخدام الذكاء الاصطناعي في الحد من كمية الموارد المستخدمة، مع تحسين غلات المحاصيل، جزءا من استراتيجية أكبر يطلق عليها الخبراء اسم “الزراعة الدقيقة”، وتتلخص الفكرة في استعانة المزارعين بالتكنولوجيات الناشئة، مثل الطائرات المسيّرة التي تعمل على تقييم مستويات المياه أو رش المبيدات الحشرية في الحقل، لمعالجة المناطق التي تعاني من مشاكل بدقة أشبه بإجراء عملية جراحية.
وتقول بوكمان: “تساعد الزراعة الدقيقة في الحد من هدر المياه، كما تؤدي المزيد من المهام بموارد أقل وكفاءة أكثر”.
وتضيف: “احتاجت الزراعة الأمريكية إلى 100 مليون فدان إضافي قبل 30 عاما لتتناسب مع مستويات الإنتاج الحالية”، وترجع تحسينات الإنتاج إلى حد كبير إلى تطبيق استراتيجيات دقيقة تُستخدم جنبا إلى جنب مع الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى.
كثير من هذا التطوير أسهمت فيه شركات رائدة في القطاع الزراعي على مستوى العالم، من بينها شركة “جون ديري”، ومقرها ولاية إلينوي، وهي تعمل في تطوير وتصنيع الجرارات وغيرها من الأدوات التقنية التي تستخدم في الأنشطة الزراعية في شتى أرجاء العالم.
وتقول سارة شنيكل، مديرة التقنيات الناشئة في مجموعة الحلول الذكية لدى شركة جون ديري: “هدفنا من الاستعانة بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا هو مساعدة المزارعين على أداء مهامهم بطريقة أفضل”، وتضيف أن تقنيات الذكاء الاصطناعي “تغير الزراعة، وهي موجودة بالفعل، والمزارعون يتبنونها، ونعتقد أن المزيد من المزارعين سيستخدمون هذه التكنولوجيا مستقبلا”.
وتؤكد شنيكل أن شركة جون ديري وفرت العديد من أدوات الذكاء الاصطناعي للمزارعين على مدار عقود، مثل أدوات أنظمة التوجيه “أوتوتراك Autotrac” الخاصة بها، والتي تسمح بتوجيه الجرارات بطريقة آلية.
وفي عام 2018، قدمت الشركة تقنية تُعرف باسم “سي آند سبراي See & Spray”، التي “تضيف الذكاء الاصطناعي إلى الآلات” وتساعد المزارعين في تحديد مكان الأعشاب الضارة داخل المحاصيل وإزالتها، واستخدام مبيدات الأعشاب فقط عند الحاجة إلى ذلك وعلى مستوى بالغ الدقة.
وتقول شنيكل إن هذه التكنولوجيا ساعدت المزارعين في الحد من استخدام مبيدات الأعشاب بنسبة تصل إلى 66 في المائة، مما أدى إلى تحقيق وفورات كبيرة، وتضيف: “يوجد عائد استثماري واضح من وراء تطبيق هذه الأدوات”.
كما كشفت شركة جون ديري، خلال العامين الماضيين، عن جرارات ذاتية القيادة بالكامل، وتقول شنيكل إن هذه الجرارات تمثل خطوة مستقبلية كبيرة نحو تحقيق أكبر قدر من الاستقلالية في القطاع الزراعي، والتي ينبغي أن تحرز تقدما سريعا خلال السنوات المقبلة.
وتضيف: “لدينا أهداف نحو تحقيق استقلال في جميع خطوات الإنتاج الزراعي بحلول عام 2030”.
جني حصاد الذكاء الاصطناعي
يحتل خفض التكاليف وزيادة الأرباح أهمية كبيرة بالنسبة للمزارع والشركات الزراعية الأمريكية، بيد أن الفوائد تتجاوز هذا الحد بكثير، كما يمكن أن يتردد صداها في شتى أرجاء العالم.
ويقول ستيفن طومسون، المشرف على البرنامج الوطني للهندسة الزراعية وهندسة النظم الحيوية، بمعهد إنتاج الأغذية والاستدامة، المعهد الوطني للأغذية التابع لوزارة الزراعة الأمريكية: “تحسين الإنتاجية في الحقول يعني تحقيق المزيد من الأرباح للمزارعين، وسلاسل توريد أكثر قوة بأسعار أقل للمستهلكين”.
ويضيف: “تعني الممارسات الأكثر استدامة الحد من هدر الموارد الطبيعية ومنع الأضرار البيئية على كوكبنا”، وقد يشمل ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين إدارة المحاصيل والحيوانات، وهو ما يمكن أن يساعد في التخلص من النباتات المريضة، وزيادة الأرباح وحماية البيئة.
وتركز الحكومة الأمريكية على إمكانات الذكاء الاصطناعي في الزراعة، وهو ما دفعها إلى تطبيق عدد من المنح فضلا عن الاستثمار في معاهد أبحاث الذكاء الاصطناعي التي تركز على الزراعة.
ويقول طومسون إن الهدف الأساسي لهذه المبادرات هو تطوير “أدوات لدعم القرار تكون سهلة الاستخدام بمساعدة الذكاء الاصطناعي وتهدف إلى مساعدة مشرفي الأراضي على تحديد الخيارات المربحة للبيئة والاقتصاد والمجتمع”.
وتوصف العديد من الأدوات الجديدة بأنها متطورة بطريقة فائقة، وتركز على توصيل الموارد بدقة، ومراقبة التربة، وتتبع مسببات الأمراض بغية تحسين سلامة الأغذية فضلا عن أجهزة الروبوت التي يمكن أن تساعد في حصد المحاصيل، بيد أن ذلك لا ينفي حقيقة أن تلك الاستثمارات تفضي أيضا إلى ابتكارات أبسط.
ويقول جاناباثيسوبرامانيان إن الباحثين في ولاية أيوا استفادوا من الذكاء الاصطناعي في تطوير تقنيات مثل تطبيق للهاتف الذكي يمكنه تحديد الآفات، وهي خطوة توفر ساعات من العمل اليدوي. كما تساعد الأدوات قيد التطوير هؤلاء المزارعين في الحد من النفقات، وهو جزء مهم لاستمرارية الزراعة ماليا، لاسيما في ظل هوامش الربح الضئيلة التي يعاني منها القطاع بالفعل.
ويقول شنابل: “يوفر الذكاء الاصطناعي أداة طبيعية ومربحة جدا للمزارعين تساعدهم في اتخاذ قرارات فعّالة ومحلية، مع التحوط بشأن رهاناتهم، وتقييم المخاطر بطريقة أفضل”، ومن الممكن نشر هذه الأدوات على نطاق واسع على مستوى العالم بسهولة، وهو من شأنه أن يؤدي إلى زيادة هائلة محتملة في غلات المحاصيل في مناطق في العالم هي في أمس الحاجة إليها، مثل منطقة جنوب شرقي آسيا.
ويضيف: “التكلفة الهامشية لاستخدام أداة للذكاء الاصطناعي في الهند تقترب من الصفر، فبمجرد تصنيع الأدوات، لن يكون هناك أي تكلفة لتوصيلها”.
ويشعر الخبراء بتفاؤل حذر بشأن الكيفية التي ستساعد بها هذه الأدوات قطاع الزراعة في الحد من التهديدات الناشئة من المناخ وسوق العمل غير المستقر وغير ذلك، مع استخدام المزارعين لها على نطاق واسع.