#مقالات | د.نور الدين بلجة: “الطبيعة وغرض المدح عند البحتري”
الطبيعة بظاهرها ورمزيتها ، بألوانها وأحجارها حاضرة في عدّة مواطن من قصائد البحتري.
والملاحظ أنّ الشّاعر لا يوردها منفصلة بذاتها كما سنوضح من خلال الأشعار وإنّما هي الأخرى نظّمها في غرض المدح قائلا :
أخذَتْ أمنَها من البؤسِ أرْضٌ … فَوْقَها ظِلُّ سَيْبِكَ المَمْدُودُ
ذَهَبَتْ جِدّةُ الشّتَاءِ وَوَافا … نا شَبيهاً بكَ الرّبيعُ الجَديدُ
أُفُقٌ مُشرِقٌ، وَجَوٌّ أضَاءَتْ، … في سَنَا نُورِهِ، اللّيالي السُّودُ
وكأنّ الحَوْذانَ، والأُقْحُوَانَ الـ … ـغَضّ نَظْمانِ: لُؤلُؤٌ وَفَرِيدُ
قَطَرَاتٌ منَ السّحابِ وَرَوْضٌ، … نَثَرَتْ وَرْدَها عَلَيهِ الخُدُودُ
اخترنا هذه المقطوعة الشّعرية من قصيدة (ووافانا الرّبيع الجديد) فالمتأمّل للمعجم الطّبيعيّ الّذي أورده الشّاعر في هذه الأبيات الشّعريّة يجده يحتوي على حقوق دلاليّة على غرار حقل الفصول (الشّتاء ، الرّبيع ) وحقل السّماء والأرض (أفق ،أرض) وحقل النّور والظّلام (الجديد ،مشرق،أضاءت،اللّياليّ، السّود) وحقل النّبات ( ورد) ، إلى جانب التنوّع المعجميّ الطّبيعيّ وظّف الشّاعر عنصر الخيال على حدّ قوله في صدر البيت الشّعريّ الأوّل:
أَخَذَتْ أَمْنَهَا مِنَ البُؤْسِ أَرْضٌ فَوْقَهَا ظِلُّ سَيْبِكَ الَمَمْدُودُ
فقد شبّه الأرض بإنسان حيث ذكر المشبّه (المستعار له) وحذف المشبّه به (المستعار منه) وأبقى على إحدى لوازمه (اللّفظ المستعار) على سبيل الاستعارة المكنيّة فالأرض لا تأخذ الأمن فبعدما كانت شاحبة الوجه، كساها التّشاؤم، فاقدة الأمل جاءها سَيْبٌ الممدوح فأرجع لها الحياة بعد الممات .
تبدو هذه الصّورة الطّبيعيّة الكبرى في بنائها الفنيّ عند البحتريّ إضافة نوعيّة من حيث دلالاتها في توضيح المعنى وتأكيده، والإبانة عنه والبعد الفكريّ الثّاقب والتّشخيص الرّائع ، فهذا الجمال الفنيّ يوثّق الصّلة الشّعريّة المتميّزة بينها وبين المدح . يصوّر الشّاعر الانقلاب اذي عاشته الطّبيعة في زمانه، فهي في عهد ممدوحه ارتدت آمنة مطمئنّة بعد البؤس وفقد الأمل في الحياة ،وتبدّلُ الشّتاء فيها بالرّبيع والآفاق صارت مضيئة بعد أن كانت مظلمة، حتّى اللّيالي خلعت عن نفسها لونها الأسود الدّال على اليأس .
لقد ساق الشّاعر حديثه من خلال هذه الأشعار ليبيّن أنّ النّاس ليسوا وحدهم فرحين مستبشرين بوجود ممدوحه وإنما حتّى الطّبيعة استعدّت وازينّت لاحتضانه بأغلى ما تملك من وسائل الرّاحة والسّكينة إنّه انقلاب تامّ.
الدكتور نور الدين بلجة