باشرت شركة «أبل» إنشاء مقر إقليمي في حي كولفر سيتي في لوس أنجلوس قرب مجمع استوديوهات «سوني بيكتشرز» إجمالي مساحاته 50000 ألف متر مربع، إذ تخطط عملاقة التكنولوجيا لمضاعفة عديد منسوبيها هناك إلى أزيد من 3000 موظف بحلول 2026. إلا أن الممثلين والمؤلفين والمنتجين في هوليوود الذين يعتقدون أن توسع «أبل» في مدينتهم قد يعزز إنفاقها على الأفلام، سيخيب أملهم على الأرجح.
تُعيد صانعة «أيفون» النظر باستراتجيتها السينمائية بعد مبيعات مخيبة لعدة أفلام كانت أنتجتها بميزانيات ضخمة مثل (Killers of the Flower Moon) لمارتن سكورسيزي و(Napoleon) و(Argylle) و(Fly Me to the Moon). وقد ألغت خططها لطرح فيلم الحركة الكوميدي (Wolfs) بطولة جورج كلوني وبراد بيت في آلاف دور السينما العالمية، ليقتصر عرضه الأول على صالات محدودة، ثمّ أتاحته عبر خدمة البث «أبل تي في+» في 27 سبتمبر.
وتخطط «أبل» لاعتماد نهج مشابه مع عدة أفلام مدرجة على جداولها، ومنها (Blitz) الذي يتناول أحداثاً من الحرب العالمية الثانية. فالشركة التي كانت تعتزم سابقاً إنفاق نحو مليار دولار سنوياً على إنتاجات ضخمة، لن تطرح أي فيلم على نطاق واسع في دور السينما العالمية حتى يونيو 2025، حين تعود مع فيلم (F1) من بطولة براد بيت الذي يؤدي فيه دور سائق فورمولا 1 سابق يرجع إلى حلبة السباق كمرشد لنجم صاعد.
يأتي هذا التحول على صعيد الاستراتيجية السينمائية في إطار عملية إعادة ضبط أوسع لاستوديوهات «أبل» في هوليوود يقودها زاك فان أمبورغ وجيمي إيرليخت، إذ تسعى إدارة الشركة في كوبرتينو إلى ضبط النفقات، وفقاً لما نقلته بلومبرغ في يوليو.
بعدما أنفقت «أبل» ما يربو على 100 مليون دولار، وحتى 200 مليون دولار أحياناً، على إنتاج بعض الأفلام آنفة الذكر، ستركز اليوم على إنتاج نحو 12 فيلماً سنوياً فقط بميزانيات دون 100 مليون دولار لكل منها، وفقاً لعدد من الأشخاص المطلعين على خطط الشركة طلبوا عدم كشف هوياتهم لأنه غير مصرّح لهم الحديث عن مسائل داخلية.
يعني ذلك أن «أبل» لن تغير سياستها فيما يخص إنفاق مليار دولار سنوياً على الأفلام، لكن طبيعة هذه الأفلام واستراتيجيات إصدارها ستتغير، حسب الأشخاص المطلعين.
وفيما ستستمر الشركة بالسعي لعرض فيلم أو فيلمين سنوياً بميزانيات ضخمة في دور السينما، مثل (F1)، فإن أفلام مثل (Wolfs)، الذي تقاضى عليه كلوني وبيت ما مجمله عشرات ملايين الدولارات، ستُسوّق على أنها مخصصة لمنصات البث وليس لدور السينما.
ورفض متحدث باسم «أبل» التعليق على خطط الشركة السينمائية.
يتزامن انسحاب «أبل» من دور السينما مع مراجعة كل من «نتفلكس» و«أمازون» لاستراتيجياتهما السينمائية. حيث كلفت «نتفلكس» هذا العام المنتج دان لين بالإشراف على استوديو الأفلام لديها، الذي كان قد أنفق مليارات الدولارات سنوياً وأنتج أفلاماً أكثر من أي استوديو آخر في هوليوود. مع ذلك، واجهت «نتفلكس» صعوبة في إدارة جودة وتكاليف هذه الأفلام، التي اقترب عددها في بعض السنوات من 50 فيلماً. إذ كانت هناك عدة إخفاقات مقابل كل فيلم ناجح مثل (Bird Box).
وكان سلف لين، سكوت ستَبر، اصطدم مع إدارة الشركة حول استراتيجيتها فيما خصّ الأفلام السينمائية، حيث رغب بإصدار أفلام مثل (The Irishman) لسكورسيزي وفيلم (Glass Onion) المتمم لفيلم (Knives Out) على نطاق واسع في دور السينما، لكنه لم يتمكن من إقناع الرئيس التنفيذي الشريك لـ«نتفلكس» تيد ساراندوس بذلك.
أما لين فيعتزم إنتاج أفلام أقل وتطوير مزيد من المشاريع ضمن الشركة من أجل ضبط التكاليف، حتى أنه فكر في إلغاء بعض من المشاريع المكلفة قيد الإعداد حالياً في «نتفلكس».
بدورها، عيّنت «أمازون» المسؤولة التنفيذية السابقة في «وارنر براذرز» كورتني فالينتي لقيادة قسم الأفلام في الشركة، وهي تطمح لإنتاج 25 فيلماً في السنة، 15 منها تعرض في السينما، و10 تعرض مباشرة عبر خدمة البث لدى الشركة «برايم فيديو» (Prime Video)، بحسب أشخاص مطلعين.
لكن «أمازون» لم تقترب بعد من إنتاج عدد مشابه من الأفلام، كما لم تصدر أي فيلم ضخم ناجح. كما كان حال «نتفلكس» و«أبل»، فقد كان حظها أوفر في إنتاج مسلسلات تلفزيونية نجحت مثل (The Boys) و(Fallout).
يواجه الوكلاء والمنتجون في هوليوود صعوبة في فهم استراتيجيات شركات التقنية. ويتساءل بعضهم عما إذا كانت تُعرض الأفلام في دور السينما لكسب المال أو كوسيلة ترويج تسبق عرضها عبر خدمات البث.
وأيّاً كان الحال، فإن المخضرمين في القطاع يرون أن على هذه الشركات أن تزيد إنفاقها على ترويج هذه الأفلام. كما حثّ الوكلاء كلاً من «أبل» و«أمازون» على توظيف مزيد من المسؤولين التنفيذيين الذين بنوا خبراتهم في قطاع السينما من أجل التخفيف من سيطرة المسؤولين ذوي الخلفية التلفزيونية.
يدير استوديو أفلام «أبل» مات دينتلر الذي كان يعمل مدير برامج في مهرجان الأفلام «ساوث باي ساوث ويست»، وهو الآن تحت إدارة فان أمبرغ وإيرليخت وكلاهما أصحاب مسيرة مهنية في التلفزيون. أما فالينتي فتعمل تحت إدارة رئيسة استوديوهات «أمازون إم جي إم» جنيفر سالكي، التي كانت تعمل أيضاً في مجال التلفزيون قبل التحاقها بـ«أمازون». في حين أن مديرة لين هي مسؤولة المحتوى في «نتفلكس» بيلا باجاريا، وهي أيضاً مديرة تنفيذية سابقة في مجال التلفزيون.
يوجّه إحجام «نتفلكس» عن التعامل مع دور العرض، والآن ابتعاد «أبل» عنها، ضربة لمشغّلي دور السينما، الذين كانوا يعوّلون على لشركات التكنولوجيا التي برزت في هوليوود كي تدعم صالات العرض المتعثرة، فيما يتخبط قطاع الأفلام للتعافي من أثر جائحة كورونا وإضراب عمال في هوليوود.
أظهر النجاح الملياري الذي حققه فيلما (Inside Out 2) و(Deadpool & Wolverine) على شبابيك التذاكر أن النموذج السينمائي قابل للازدهار، لكن مبيعات التذاكر وعدد الأفلام المطروحة ما يزالان دون مستويات ما قبل جائحة كورونا، إذ إن الإيرادات في الولايات المتحدة وكندا تبلغ ثلث ما كانت عليه في 2019.
إن أي ابتعاد عن دور السينما يوجّه أيضاً ضربة للاستوديوهات التقليدية، التي كانت تتقاضى الأموال من مساعدة «أبل» على توزيع أفلامها في صالات العرض، ومنها «سوني بيكتشرز إنترتيمنت» (Sony Pictures Entertainment) التي وزعت فيلميّ (Napoleon) و(Fly Me to the Moon) وكان مقرراً أن تتولى توزيع فيلم (Wolfs).
فيما يبقى مستقبل استراتيجة الأفلام التي ستنتهجها «أبل» مبهماً، يشير مديرون تنفيذيون في الشركة إلى أن كثيراً من الأمور معلّقة على أداء فيلم (F1). إذ تتعاون شركة التقنية العملاقة مع «وارنر براذرز» لتوزيع الفيلم، الذي نقلت تقارير إعلامية أن ميزانيته تتخطى 300 مليون دولار، ما يجعله الفيلم الأكثر تكلفة من إنتاج «أبل» حتى اليوم. وفق القاعدة الحسابية المتبعة في قطاع السينما، سيحتاج الفيلم إلى بيع تذاكر تصل إلى ضعف هذا المبلغ قبل بدء عرضه على خدمة البث التابعة للشركة لتجنب الخسارة.
المنتج جيري بروكهايمر والمخرج جوزيف كوسينسكي، اللذان سبق أن تعاونا لصنع الفيلم الناجح (Top Gun: Maverick) عام 2022، رفضا خلال مقابلة مع «ديدلاين» (Deadline) في يوليو الكشف عن تكلفة الفيلم الجديد، لكنهما أشارا إلى أنه أقل بعشرات ملايين الدولارات من الرقم المتداول، وأنهم استفادوا من الحسومات الضريبية وصفقات الرعاية. نظرياً، يفترض أن يسهم ذلك في خفض المبلغ الأدنى الذي تحتاجه «أبل» حتى تحقق عوائد نادرة على الاستثمار عند شباك التذاكر.
ردّاً على سؤال حوال ميزانية (F1)، قال بروكهايمر حينها: «لا نستطيع أن تعطيكم رقماً محدداً لأن هذه أموال (أبل) وأترك لهم التصريح عن ذلك».
كما رفض متحدث باسم «أبل» التعليق. لكن الأمر الجلي أنه رغم إنفاق كبرى شركات التقنية مليارات الدولارات لتأسيس استوديوهات في هوليوود ولنقل صناعة التلفزيون إلى الإنترنت، إلا أنها ما تزال تحاول فهم عالم صناعة الأفلام.