لم تكن ملحمة العصيان المدني الذي نفذه أهل الكويت رفضا للغزو العراقي للبلاد موقفا أو ردة فعل طبيعية رافضة للمحتل فحسب بل أعطى أيضا رسالة وطنية مدوية في لحظة فارقة ومصيرية ستبقى راسخة في ذاكرة التاريخ والوجدان الكويتي أن لا بديل عن الكويت الوطن وسيادتها واستقلالها وقيادتها الحكيمة.
فبعيد الثاني من أغسطس عام 1990 أو (الخميس الأسود) وما إن دنس المحتل العراقي أرض الكويت الطاهرة حتى صدح صوت المعتصمين برسالة وصل صداها إلى أصقاع العالم مفادها بأنه لا مساومة ولا تفاوض ولا تنازل عن سيادة دولة الكويت واستقلالها وسلامة أراضيها وشكل ذلك العصيان المدني ملحمة وطنية رسمت خريطة الطريق وأعطت الأمل الكبير بتحرير البلاد من رجس المحتل.
وفي الذكرى الأليمة الـ 33 للغزو العراقي الغاشم التي تصادف اليوم الأربعاء يتجدد بكل فخر وعز استذكار الدور البطولي الذي أداه الشعب الكويتي الصامد ومعه المقيمون الشرفاء من خلال العصيان المدني ضد الاحتلال وصور التكافل الاجتماعي وإدارة مرافقهم المهمة أثناء العدوان الغاشم ضاربين بذلك أروع الأمثلة في الفداء والعطاء.
وعن أهمية العصيان المدني إبان الاحتلال وما شكله من موقف وطني عظيم وملحمة خالدة استطلعت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) آراء شخصيات أكاديمية ومتخصصة بالبحث والتأريخ والإعلام حيث قال الإعلامي ودكتور العلوم السياسية عايد المناع إن العصيان المدني الذي نفذه أهل الكويت للتظاهر ضد الاحتلال العراقي لم يخضع لأي قيادة أو تنظيم إنما مجرد وجود المحتل العراقي على الأراضي الكويتية بحد ذاته أعطى ردة فعل قوية رافضة له.
وأضاف المناع أن العصيان المدني حينها شكل أروع أنواع التوافق السياسي والاجتماعي والجماهيري لمواجهه المحتل رغم أن ميزان القوى آنذاك كان غير متكافئ لكن الحس الوطني النابع من إيمان الشعب بعدالته قضيته كان ندا وخصما لا يستهان به أمام سلطة الاحتلال.
وأوضح أن العصيان أو المقاومة المدنية دخلت منذ أول ساعات الغزو في مواجهة مفتوحة وشاملة مع سلطة الاحتلال على الرغم من أساليب القمع وأن استمرار العصيان المدني خلال الغزو الذي امتد سبعة أشهر سواء بأسلوب تنفيذه أو بنتائجه الحاسمة أدى إلى عزل العدو عن المواطنين والرافضين لكل ما كان يتعلق به من أمور صغيرة كانت أم كبيرة وكان سلاحهم تحليهم بالعزم والثبات والجدية في مقاومة العدو.
ولفت إلى الظروف والأحوال المهولة التي عاشها أهل الكويت حينها ومقاومتهم لها وتحديها رغم المعاناة الشديدة تحت وطأة المحتل الغاشم والحرب النفسية وآلة القتل المجرمة للمحتل الذي لجأ إلى جميع الطرق في إيذاء أهل الكويت للرضوخ لمطالبه لكن في المقابل قام المواطنون بمقاومته كل على طريقته ورفض محاولاته في طمس هوية وتاريخ الكويت.
من جانبه قال الباحث والمؤرخ الكاتب فرحان الفرحان ل(كونا) إن العصيان المدني من المآثر البطولية المدنية التي شكلت سدا وجبهة داخلية شلت حركة المحتل وكان عاملا أساسيا في عرقلة أهداف الغزو وإفشال مخططاته.
وذكر الفرحان من الشواهد التاريخية الناجحة للعصيان عندما قام المواطنون في الأيام الأولى للعدوان بنزع أرقام البيوت والشوارع ومحو الكتابات من على دليل المناطق التابع لإدارة المرور الذي يبين موقع كل قطعة وشارع وعادة ما يكون مثبتا في مدخل كل منطقة من المناطق السكنية.
وتابع أنه من الشواهد أيضا فطنة الكويتي بتضليل جنود العدو عندما كانوا يسألونهم عن أماكن معينة فكانوا يوجهونهم عكس الاتجاهات التي يسألون عنها كما كان الجواب الذي اتفق عليه جميع المواطنين هو (لا أعلم) حينما يسألهم أي شخص لا يعرفونه عن عنوان أو اسم شخص معين.
ولفت إلى أهمية ذلك حينها خصوصا بعد أن انتشر عدد كبير من أفراد استخبارات النظام العراقي في الأيام الاولى للغزو في عدد من المناطق السكنية ويسألون عن عناوين بعض المواطنين والمسؤولين في الدولة وبعض مؤسساتها لكن وعي المواطنين أحبط مخططهم وجعلهم لا يستطيعون الوصول إلى العناوين التي لديهم في كثير من الاحيان إلى حين تغيير أماكن إقامتهم وهوياتهم.
وذكر أنه أيضا بدأت حلقات التشاور في المساجد بالاتساع مع الأيام وقام الأهالي بخطوة مهمة تمثلت بتنظيم مجموعات للحراسة تتولى كل منها حراسة الشارع الذي تقيم فيه بحيث يتناوب عدد من سكان ذلك الشارع على حراسته على فترات.
من جهته قال الإعلامي حسين عبدالرحمن إن محنة الغزو العراقي الغاشم أظهرت مدى تماسك ووحدة الجبهة الداخلية لأبناء الشعب الكويتي وصموده ومقاومته للاحتلال والتفافه حول حكومته وقيادته الشرعية وضربوا أروع الأمثلة أمام دول العالم الحرة التي استنكرت جريمة الغزو النكراء التي قام بها محتل تسلل في جنح الليل محاولا طمس هوية دولة وتاريخها ونهب ثرواتها ومقدراتها.
وأضاف عبدالرحمن أنه حينها لم تكن هناك وسائل للتواصل الاجتماعي وحتى الصحف الكويتية اليومية توقفت عن الصدور منذ اليوم الأول للغزو وشعر الكويتيون بحاجتهم إلى بديل لذا ابتكروا وسائل تواصل خاصة بهم فلجأ البعض إلى طباعة المنشورات وتوزيعها وأدت أدوارا مهمة في الحفاظ على اللحمة الوطنية والصمود في وجه الغازي والاحتفاظ بالمبادرة دون استسلام أو يأس.
وتابع أنه أحيانا كان يتم تسجيل محتوى المنشورات على أشرطة الكاسيت لدواعي أمنية حيث لا تتعرض الأشرطة إلى تفتيش دقيق مثل بقية المنشورات الورقية ومن وسائل التواصل جهاز الراديو إذ يتم التواصل مع الخارج بترددات معينة.
وذكر من أساليب العصيان المدني التي انتشرت في الأيام الأولى للعدوان أيضا كتابة الشعارات المعادية للمحتل على الجدران وفي الأماكن المختلفة حيث انتشرت تلك الظاهرة في جميع أرجاء الكويت وعلى بوابات بعض محولات الكهرباء ومراكز المجاري.
وبين أنه من أجمل ذكريات التواصل بين ابناء الكويت ما حدث في 2 سبتمبر 1990 وتحديدا بمناسبة مرور شهر على الاحتلال الدعوة الساعة الثانية عشرة ليلا تجاوب أغلبية الشعب الكويتي الصامد لكي يخرج إلى أسطح المنازل ويكبر بأصوات تصدح من على الأسطح بـ “الله أكبر. الله أكبر. الكويت حرة” رفضا للمحتل الغاصب.