د. خولة مطر تكتب: لسنا بكفرة
الكويت – هاشتاقات الكويت:
المصدر – الجريدة:
كم هو كافر ذلك الذي يسمى العوز أو الفقر أو الاحتياج، هو الكفر حقاً، وإلا فلماذا يحرق العربي نفسه من تونس حتى بيروت مروراً بالقاهرة؟
لم يعد العربي يحتمل الذل أو ربما حتى لو استطاع لوهلة متذرعا بأنه يتحمله من أجل أولاده حتى يربيهم ويعلمهم فيكبروا ليكسروا تلك الحلقة نفسها، حلقة الفقر المصاحب لكل آلام الكون.
يمرون أمامنا يوميا، يجرون أجسادهم جرا، يبتسمون رغم الوجع، ويسيرون حاملين بعضا منه ذاك الذي اسمه الأمل، ولكن تطاردهم أشباح أولئك الذين يحتقر بعضهم الفقر والعوز، أليس كذلك؟
بعضهم يتصوره خيارا للمواطن العربي، بعضهم يجمّل تعاليه و”قرفه” من الفقراء والمعتازين بأنهم “كسالى” لم يثابروا على العلم والمعرفة، أو أنهم لا يمتلكون الخيال الواسع، وهذه اللحظة التاريخية والزمن يتقدم أسرع من دقات القلب، بحاجة إلى من يملكون الإبداع والمخيلة الواسعة والمعرفة بالتكنولوجيا وتعابير تمرسوا على تكرارها وحفظها مثل الثورة الصناعية والذكاء الصناعي.
نخدع أنفسنا إن تماشينا مع منطق معوج كهذا، بل إننا بذلك نشوه أجيالا قادمة ستتصور أن فقرها سببه الآباء والأمهات الذين لم يبذلوا جهدا أكبر لتنشئة تبعدهم عن أشباح الجوع والعوز.
هو زمن اللامنطق، هو زمن أن يبقى المنافق والفاسد والمرتشي ووريث المال الملوث أحيانا، يبقى كل هؤلاء ليشكلوا طبقة علية القوم التي تسير أوضاع البلاد والعباد، وتحاكم الفقير لفقره، والكادح لعرقه، بل ربما تصاب بالغثيان من نفس ذاك العرق وهو رائحة الأرض الطيبة التي صنعت كل تلك الأوطان الممتدة.
والتي جاءت بطبقات تحكم وتسيطر حتى لوثت الأرض برائحتها النتنة، فغطتها بكل أنواع العطور، فأصبح سعر قارورة العطر أغلى بكثير من برميل النفط الذي يعيشون منه ويتكلون عليه صباحا مساء لعقود طويلة.
يحرق هو نفسه لأنهم منعوه من العيش “المستور” عبر عربته التي يجول بها ليبيع الخضار أو ذاك الذي يكد ويكدح طول النهار ليدفع أقساط مدرسة خاصة عندما رفعت الدولة مسؤوليتها عن التعليم.
فقد اكتفت بأبناء “القادرين” ليشكلوا شريحة التكنوقراط لديها، وعلى الباقي أن يقتات بالفتات ويعيش عليه، أو أن ينتظر ربطة خبز أو علبة سردين ترمى له من جمعيات احترفت العمل الخيري بدلاً من أن تعمل على إعادة كرامة الإنسان بمهنة كريمة تسد الرمق وتكفي أقساط التعليم.
وقف ذاك اللبناني أمام باب مدرسة أبنائه لم يحتمل الإذلال لأبنائه وهو ينظر في عيونهم المليئة بالدمع متشوقة لأن تكون كما كل الأطفال، طفل أو طفلة بحقيبة وقلم وابتسامة بريئة، حتى هذا الحلم المتواضع لم يعد متاحاً لفقراء هذه الأوطان المنغمسة بالفساد حتى اعتلت أعلى المراتب في تلك اللوائح المشينة، وحتى أصبحت التنمية مهددة بهذه الآفة أو ذاك المرض المزمن المتأصل في تفاصيل الدولة الحداثية.
أما قبل أسبوع فقد اختار ذاك العربي الآخر أن يقتل أبناءه ثم ينهي حياته، هو الآخر لم يعد يتحمل إحساسه بالعجز الدائم وهو غير قادر على أن يكسو أو يطعم أو يعلم أبناءه، تتكرر المشاهد في كل الزوايا من البحر إلى آخر ذرة ملح، وتبقى الصور المتلاحقة حتى فيما يسمى أرض النفط، هناك كثير من الحرمان والعوز المخبأين خلف بارافانات من المظاهر الخادعة.
هناك أيضا قالت الدولة كلمتها الأخيرة، لقد “رعيناكم” في دولة “الرعاية” حتى حان وقت النضج فعليكم الآن السباحة في بحر الحياة وحيدين، مضحكة تلك العبارة لأن باستطاعة الطرف الآخر أن يرسل الأسئلة المتلاحقة، ويؤكد ماذا فعلتم بملايين بل بلايين النفط التي تكدست أو ربما تسربت؟
وما ذنب المواطن إن كان علينا توفير طائرة خاصة لكل مسؤول وأسطول من السيارات الفاخرة، وشقق وبيوت في ضواحي المدن البعيدة؟ فالبحر يشهد على ما نقول، فاسألوه كم دفع الأثمان باهظة كما كل مواطن ومواطنة بسيطين أو طبقة وسطى أو حتى تلك الطبقة التي صدقت أن بالعلم يصل الإنسان إلى السماء السابعة، ويحقق أحلامه وأحلام أبنائه ولم تعرف أن في أوطاننا حتى العلم أصبح لا قيمة له إلا إذا ترافق مع ختم خاص جداً؟!
كم عربي سيحرق نفسه أمام أعيننا قبل أن نتوقف عن مطالعة نشرات أخبارهم المزيفة، وحفلات الترويج الممجوجة لبرامجهم التنموية “العبقرية” وحتى متى تبقى الأغلبية العظمى تنتظر المخلص أو ربما غودو؟ ومتى يعرفون أن الإنسان لا يعيش بالفتات بل ببعض من كرامة وعزة، معه حق العبقري زياد الرحباني عندما ردد “أنا مش كافر بس الجوع كافر”.