أثارت قدرة الأطفال لتعلُّم واستخدام اللغة، مقارنة بتعلُّم أشياء أخرى، حيرة العلماء لعقود. مثلاً، لا يستطيع معظم الأطفال في سن الثالثة أو الرابعة عقد أربطة أحذيتهم أو أزرار معاطفهم، لكن بالمقابل يمكنهم فعل أشياء أكثر تعقيداً بما لا يقاس: تحويل الفكرة إلى سلسلة من الأصوات ذات المعنى، التي يمكن أن يلتقطها شخص آخر ويفهمها. فرحلة الطفل من مقطع لفظي واحد في عامه الأول إلى جمل كاملة في سن الرابعة، سريعة بشكل غير عادي. إذ يعرف جيداً، أولئك البالغون الذين يحاولون إتقان لغة ثانية، كم أن ذلك مرهق، ويتحقق، إذا كانوا محظوظين، بوتيرة بطيئة للغاية.
إن سبب ذلك على الأرجح، كما يقول علماء الأعصاب بالمركز الطبي بجامعة جورج تاون الأمريكية، في دراسة مشتركة مع آخرين من مستشفى الأطفال الوطني، نُشرت في PNAS في 7 سبتمبر 2020م، هو أن الرُضَّع والأطفال الصغار لديهم أدمغة ذات قوة فائقة من نوع ما. ففي حين يعالج البالغون معظم المهام العصبية المعيَّنة في مناطق محدَّدة في واحد أو آخر من نصفي الكرة المخية، يستخدم الصغار نصفي الكرة المخية الأيمن والأيسر للقيام بالمهمة نفسها فيما يتعلق باللغة. وربما هذا هو ما يجعل الأطفال يتعافون من الإصابة العصبية بسهولة أكبر من البالغين. كما أظهرت الدراسة أنه قبل تعافيهم، لا تتأثر عملية تعلم اللغة بالإصابة.
تُعلق على هذه النتائج المهمة أستاذة طب الأعصاب في جامعة جورج تاون إليسا ل. نيوبورت: “إن دراستهم تحل لغزاً حيَّر الأطباء وعلماء الأعصاب لفترة طويلة”. ذلك لأن المسح التقليدي لم يكن قادراً على كشف تفاصيل هذه الظواهر. الآن، باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) الذي يتم تحليله بطريقة متطوِّرة وأكثر تعقيداً، ساعد الباحثين في التوصل إلى ذلك.
فحصت التحليلات الواردة في الدراسة أنماط تنشيط الرنين المغناطيسي الوظيفي لخرائط التنشيط اللغوي في كل نصف الكرة المخية لـ 53 فرداً موزعين في أربع فئات عمرية: 4-6، 7-9، 10-13، و18-29.
وجد الباحثون أن المجموعات الأربع أظهرت تنشيطاً لغوياً على الجانب الأيسر. لكن أظهر معظم الأطفال الصغار أيضاً نشاطاً كبيراً في مناطق نصف الكرة الأيمن المقابلة. وقد تبيَّن أن في البالغين، تم تنشيط المنطقة المقابلة في النصف المخي الأيمن في مهام مختلفة تماماً. على سبيل المثال، تشاركت، خلال معالجة المشاعر المعبَّر عنها بالصوت في الأطفال الصغار، مناطق في كلا نصفي الكرة المخية في فهم معنى الجمل بالإضافة إلى التعرف على التأثير العاطفي.
وبحسب نيوبورت تبدأ شبكات الدماغ التي تحدِّد مهام معيَّنة في أحد نصفي الكرة المخية أو الآخر خلال مرحلة الطفولة ولكنها لا تكتمل حتى يبلغ الطفل 10 أو 11 عاماً تقريباً. وتأتي أهمية هذا العمل، بالإضافة إلى أهميته العلاجية، في أنه يقدِّم دليلاً على كيفية توحيد الأنظمة المعرفية والشبكات العصبية التي تكمن وراءها وتوحيدها بمرور الوقت أثناء التطور. إنه يقدِّم نظرة ثاقبة لمبادئ تطوير النظم المعرفية.