محمد مهلهل الياسين: الشهداء الأحياء في غزة.. أحياء بأجساد منهكة وشهداء بقلوب مكسورة

في غزة، لا يُقاس الموت فقط بما تلتقطه عدسات الكاميرا من أجساد ممزقة أو جنائز حزينة. فثمة موتٌ آخر… صامت، بطيء، مستمر، لا يُوثّق في نشرات الأخبار، ولا يُحصى في تقارير المنظمات. إنه موت من نوعٍ مختلف، يعيشه أولئك الذين بقوا بعد المجازر، فُقدت أرواحهم ولكن بقيت أجسادهم تتنفس. إنهم ما يُعرف بـ “الشهداء الأحياء”.

شهيد حي؟ كيف يكون ذلك؟

هم أولئك الذين فقدوا كل شيء: الأهل، الأحباب، البيت، الأمان، والذكريات…
لكنهم لم يفقدوا الحياة بمعناها البيولوجي، فبقوا أحياءً بالأجساد فقط،
يتنفسون بصعوبة في ظل الحصار،
ينامون في خيامٍ بلا دفء،
يعيشون على أنقاض الذكريات، ويقاومون بالحُلم، رغم أن الواقع لا يرحم.

الألم الذي لا يُرى

أن تكون شهيدًا حيًا، يعني أن تمشي بجسدك لكن قلبك مدفون تحت الركام.
يعني أن ترى طفلك يُسحب من بين الأنقاض، وتُجبر على دفنه بيدك، ثم تكمل حياتك كأن شيئًا لم يكن.
أن تكون شهيدًا حيًا، هو أن تسير في مدينة فقدت ملامحها، تسمع في كل زاوية صدى صوت من رحلوا، وتُسأل: “كيف حالك؟” فترد: “الحمد لله” وأنت محطم تمامًا من الداخل.

الوجع لا يحتاج إلى دماء ليثبت نفسه

العالم يتعاطف مع صور الدماء، لكنه كثيرًا ما يغضّ الطرف عن وجع الأحياء.
هؤلاء الذين لا صراخ لهم، لأنهم صرخوا بما يكفي.
الذين لا دماء تغطي أجسادهم، لكنهم ينزفون بصمت.
هم شهداء في كل شيء، إلا أنهم ما زالوا يتنفسون، فقط ليواصلوا الشهادة على جريمة مستمرة.

لماذا يجب أن نتحدث عنهم؟

لأن الصمت عليهم ظلمٌ جديد.
لأنهم لا يريدون الشفقة، بل أن يعرفهم الناس، أن يُحكى عنهم، أن يُنقل وجعهم كما هو: بلا تزييف، بلا تلميع، بلا نسيان.

نكتب عنهم لأنهم أوفياء للحياة رغم قسوتها،
نكتب عنهم لأنهم أقوى مما نظن، وأحق بالذكر مما نتصور،
نكتب عنهم لأنهم الشهود على الجريمة، والصوت الذي لا يجب أن يُخنق.

خاتمة

“الشهيد الحي” ليس مجرد لقب، بل حالة إنسانية مؤلمة، تُلخّص ما لا تستطيع الكلمات أن تصفه.
هؤلاء هم من يدفعون الثمن مرارًا، بلا ضجيج، بلا اهتمام، بلا عدل.
فإن كنا عاجزين عن إيقاف القصف، فلنكن على الأقل صادقين في رواية وجعهم.

غزة لا تموت، لكنها تُنزف على مهل… وشهداؤها الأحياء هم الدليل

محمد مهلهل الياسين

Exit mobile version