تتحصل الأمم على مفكرين ونوابغ تكون مهمتهم الرئيسية هي إزكاء فورة العقل، ليحمل كل فرد من تلك الأمة رأسه على كتفيه، وذلك إعلاءً لقيمة العقل، كما يكون من مهام هؤلاء النوابغ، الذين يحددون للأمم الطريق التي تسير عليها، الإجابة على سؤال هام: ما لشخصية التي يجب أن يتم تكوينها وبناؤها، لتضع هذه الأمة أو تلك في المكان والمكانة التي يحددها، دون مبالغة أو تقليل، عن وعي وبصيرة طليعة الأمة ممثلة في مفكريها ومثقفيها وأدبائها.
إني أزعم، بل إنه اليقين، أن شخصية الإنسان العربي في حاجة إلى تكوين جديد وصناعة حديثة، لتصبح قادرة على خوض غمار الحياة المعاصرة، بما فيها من تقنيات، وما فيها من علوم، وما فيها من قدر هائل من تطور، فليس مقبولا لأمة كانت في فترة زمنية – ليست موغلة في التاريخ – تقود العالم أن تصبح عالة على هذا العالم ولا تقدم سهما معتبرا من أسهم الحضارة المعاصرة، ولا أن تشارك في صنع حاضر ومستقبل الإنسانية.
ليس هناك سبيل لتحقيق ذلك كله إلا – كما أسلفنا – من خلال إنتاج شخصية عربية معاصرة، قادرة على مسايرة العالم، وقادرة على المنافسة التي تثبت من خلالها قدراتها، مقدمة انتاجا جديدا غير مكرورا.
من بين المفكرين والأدباء الذين تحصلت عليهم أمتنا العربية في عصرها الحديث، عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي أحدث ثورة فكرية وعقلية في مصر، وفي أمته العربية.
في كتابه الغاية في الأهمية “مستقبل الثقافة في مصر” طرح عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين سؤالا أوليا عن أيهما أقرب للشخصية المصرية: أهل الشرق أم أهل الغرب؟ وبسّط السؤال أكثر حينما تساءل: أي عقلية أقرب إلى العقلية المصرية: عقلية الصيني أو الهندي أم عقلية الفرنسي أو الإنجليزي؟
ولم يبق عميد الأدب طويلا ليوضح الإجابة التي يريد من خلالها أن ينطلق في تحديد مستقبل الثقافة المصرية، وأكد جازما أن الإنسان المصري – نموذجا هنا للإنسان العربي – أقرب إلى الإنجليزي و الفرنسي منه إلى الصيني والهندي وأن مستقبل الثقافة المصرية مرتبط ارتباطا وثيقا بجيرانها الأوروبيين الذين لا يختلفون في العقلية عن عقلية المصري، بل ذهب إلى أكثر من ذلك وهو أن الدول مرة تدول إلى أحد شاطئي بحر الروم فمرة يمتلك الشاطئ الجنوبي الذي تمثله مصر الحضارة، ومرة يمتلك الشاطئ الشمالي الأوروبي تلك الحضارة.
وذهب أكثر من هذا في تحليله لأسباب العداء الذي يحكم العلاقة بين الشاطئين والذي كان دائما له بعد ديني: إسلامي على الشاطئ الجنوبي، مسيحي على الشاطئ الشمالي، وأعلن صراحة أنه لا عداء بين الإسلام والمسيحية حيث أن الأول يعلن بوضوح أنه خرج من نفس المشكاة التي خرج منها الثاني، ورأى عميد الأدب العربي أنها السياسة والمصالح والأطماع هي التي حكمت تلك العلاقة وضربت العداء بين الشاطئين.
هذا الكتاب الهام الذي يتناول فيه الدكتور طه حسين عقلية كل من المصري والأوروبي، ويستعرض فيه الخواص النفسية للشخصية المصرية ونظيرتها الأوروبية، وينفي عن الأوروبي تلك الصورة المغلوطة التي ترسخت – ومازالت – عن الشخصية الأوروبية وعلاقتها بالمجتمع والسياسة وقبل كل ذلك بالدين والروح، الذي يحاول فريق منا جاهدين نزعه منهما نزعا. هذا الكتاب قد أملاه عميد الأدب العربي في منذ واحد ثمانين عام حيث صدر في العام ١٩٣٨.
ولقد أكد الدكتور طه حسين في هذا الكتاب أن السبيل الوحيد للحاق بركب الحضارة الأوروبية الحديثة هو التعليم، الذي خصص له الجزء الأوفر من الكتاب، والذي نجد فيه أن الرجل عني أول ما عني بتكوين الشخصية من خلال العملية التعليمية التي أراد لها أن تكون أوروبية لما تحقق من تكوين لشخصية نقدية قادرة على الإتيان مرة بمهامها، والقادرة على القيام بواجباتها: الوظيفية والعملية والوطنية، والقادرة على التمييز بين ما يلقى عليها، واختيار الانسب والأصوب.
ذلك الذي استطاعه التعليم في المجتمعات الغربية، فنجد للحاصل على أقل الشهادات والمراحل التعليمية القدرة الكاملة على أداء وظيفته، والقدرة الهائلة على التمييز بين الغث والسمين في القضايا المثارة في مجتمعه دون أن يكون هناك مزيد جهد مبذول من المؤسسات المنوط بها نشر الوعي، لأنها قامت بذلك على مدار العمر، أعني عمر المواطن، ومن هنا أيضا تصدر أفعال المواطنين عن وعي واختيار لما يرون فيه الصالح العام مرة والصالح الذاتي مرة أخرى.
إننا لا يمكن ان نصل إلى إنسان واع بالدرجة التي نضمن فيها حفاظا على المجتمع ورعاية للفرد ذاته إلا إذا قمنا بتأهيل الإنسان لذلك، ولا يمكن أن نؤهله إلا من خلال التعليم، التعليم الذي يخرج لنا شخصية قادرة على أداء مهامها التي تخصصت فيه، وقادرة على اتخاذ القرار المناسب في أمر ما أو حدث ما في الوقت المناسب، وتستطيع أن تضع كل ما يلقى عليها في ميزان النقد المنضبط، دون إفراط أو تفريط، ودون تهاون ولا مغالاة.
هذه الشخصية التي سعى إلى تكوينها من خلال التعليم الدكتور طه حسين، والتي مازلنا نسعى لتخريجها من مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا هي التي تضبط حركة المجتمع فمهما سُنّ من قوانين، ومهما قُدِّم من تشريعات لضبط حركة المجتمع، فإنه لابد أن يعتمد الإنسان على تلك الآلة الداخلية التي يجب ان تكون منضبطة وإلا فلن يكون هناك نتيجة، ولن نحقق شيئا يذكر، وستظل التشريعات والقوانين ليست أكثر من حبر على ورق.
إننا في مجتمعاتنا العربية لسنا في الحقيقة في حاجة إلى مزيد قوانين ولا جديد تشريعات، الحقيقة المؤكدة أننا في حاجة إلى تكوين الشخصية وصناعة آلة النقد وتعزيزها، ذلك الذي هو أولى أن ينتبه له السيدات والسادة أعضاء المجالس التشريعية والذين خرج علينا في مصر نائبة منهم منادية بقانون للبس المحتشم، ذلك الذي يعكس أزمة وعي عميقة في الأولويات عند المنوط بهم العمل على حاجات المجتمع.