هل كان الوضع الاقتصادي الاعتيادي جيداً بما يكفي للحديث عن ضرورة العودة إليه، أم أننا أمام فرصة حقيقية للتغيير إلى وضع أفضل، وتوجب علينا أن نصمد معاً لتحقيق وضعية أفضل من السابق؟!. في فنون التفكير وعالم الأعمال، ثمة مفهوم تسمى المشكلة في سياقه بـ«الفرصة»، حيث تعتبر المشكلة فرصة لرؤية مغايرة نحو الفرص غير المرئية التي يحجبها وهم الاكتفاء في سياقات الوضع «الاعتيادي»، وبقدر ما واجهه العالم بمختلف قطاعاته، من انهيار الاقتصاد عام 2008 بقدر ما تهيأ له أن ينظر إلى زوايا أخرى كانت في سياق الوضع الاعتيادي غير منظورة، فمثلت المشكلة آنذاك فرصة، بل هي الفرصة التي شكلت معالم الجنين في الرحم، ذلك الجنين لم يكن سوى هذا النظام الذي يعيشه العالم اليوم «النظام المعرفي».
وإذا كان نظام الغرفتين هو أرقى ما بلغته البشرية في سياق أنظمة الحكم، فإن النظام المعرفي هو أرقى ما وصله العالم في سياق الأنظمة الشمولية والتكنولوجيا هي أفضل مظهر ينعكس فيه رقي العقل البشري عبر تاريخه. وبالنظر إلى تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 وما أفصحت عنه الأسباب التي أدت إليها، فإننا نجد أن الاقتصاد الأسود والفساد المالي قد شكلا أهم تلك الأسباب، وقد هيأت تلك الأسباب في ظهور العملات الرقمية وإفرازها إلى السطح بعد أن كانت مجرد حديث لدى بعض المهتمين وتصور مكتوب على الورق.
لقد برزت العملات الرقمية منذ ذلك التاريخ كأنجع علاج قد يحل تداعيات أزمة الانهيار الاقتصادي العالمي، فجرائم تزييف العملة ومشكلة المركزية والوسيط أو الطرف الثالث في عالم التعاملات المصرفية بكل أشكالها وجرائم غسيل الأموال التي تتم غالباً من خلالها، بالإضافة إلى مظاهر كثيرة من مظاهر الاقتصاد الأسود، والذي أدى إلى انهيار الاقتصاد العالمي وشل حركته كلياً، ونتيجة لذلك الوعي المتحصل بفعل ذلك، فقد كانت العملة الرقمية التي صاحبت ظهور النظام المعرفي، بل كانت إحدى أدواته وأهمها، متسقة مع مطالب التكنولوجيا وأسلوبها هي الأداة التي تم التعويل عليها كمظهر اقتصادي ينجي ويقي من ويلات الاقتصاد الأسود ويخفف من مشاكله إلى أعلى حد.
وعلى ذات السياق، أعلنت الحكومة الأمريكية قبل أيام عن عملتها الرقمية «الدولار الرقمي» (فيدتكوين) ليكون مخزن القيمة في التعاملات المالية الأمريكية والعالمية ويحل محل العملة الورقية التقليدية على الأقل إن لم يكن في الوقت الحالي فسيكون بلا شك مستقبلاً وبشكل مكتمل الهيئة والصفة. وكانت دول غير الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت من قبل عن عملتها الرقمية البديلة للعملة التقليدية الورقية، وأولها في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية، دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي أطلقت مشروعها في هذا السياق متمثلاً في عملة وطنية رقمية، كما أعلنت عن عملتها الرقمية «إم كوين» المدعمة بالذهب.
وعدا ذلك فإن ثمة بنوك داخل حدود الدولة بالشراكة بينها وبين بنوك في المملكة العربية السعودية قد استحدثت مشاريع لعملات رقمية لتسهيل التعاملات للعملاء فيما بينها، وقد وفقت في ذلك ونجحت مشاريعها، ومنها مشروع «عابر» الرقمي، والأهم أن الإمارات العربية المتحدة تعد العاصمة العالمية والسوق الأولى للعملات الرقمية، حيث وصلت المبيعات فيها إلى أكثر من 300 مليون دولار، متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية التي تتصدر السوق منذ فترة طويلة، ويمثل أكثر من ربع إجمالي الأموال التي تم إنفاقها على عروض العملات الرقمية حتى عام 2020.
يمكن القول أخيراً إنه بقدر ما تسببت الأزمة الاقتصادية العالمية من تداعيات بقدر ما أصبحت تلك المشكلة فرصة لتحقيق أوضاع أكثر جدوى من «الوضع الاعتيادي» الذي كان العالم عليه قبلها، وبالمثل فإن على العالم التعامل مع تداعيات جائحة «كورونا» اليوم واغتنام هذه الفرصة الحقيقية للتغيير نحو بدائل أفضل، والتي توفرها هذه المشكلة الجسيمة، وتحديث آليات التعاملات والأدوات في المجالات كافة بما فيها قطاع العملات المالية. وللحديث بقية.