البحث الطويل والمضني عما يجعل ألم الصدمة يزول هو جزء من قصة العديد من الناجين من الصدمات النفسية.. معايشة ألم الصدمة ورحلة البحث الطويل عن مخرج هي رحلة الناجين من الصدمات.. وفي هذا المقال سنتعرف على جزء من ملامح هذه الرحلة من خلال تجربة ناجية من الصدمة ومعالجة أيضاً.
تقول أوديليا جيرتل كرايبل Odelya Gertel Kraybill استشارية العلاج النفسي للصدمات: “إن جزءاً من سبب كونها معالجة نفسية هو أنها نجت بنفسها من صدمة، حيث سعت في مرحلة مبكرة من حياتها للحصول على مساعدة مهنية للتعامل مع أعراض الصدمة التي جعلتها في قبضة لم تستطع الفرار منها، وإن العديد من سنوات العلاج لم تساعدها بالطريقة التي كانت تتوقعها، حيث جربت أساليب وطرائق مختلفة دون أن تتمكن من الحفاظ على الشعور باستدامة العلاج، حيث كانت تبحث – كما تقول – عن إصلاح كبير لصدمة كبيرة مرت بها وتركت أثرها عليها.
وتكمل: “استغرق الامر معي عدة سنوات، وبمساعدة الدراسات الجامعية، واستكشاف العديد من الطرائق المختلفة، والأبحاث والسفر لأجزاء مختلفة من العالم، لكي أدرك أن سعيي من أجل إصلاح جانب واحد أصبح هو نفسه عقبة، فالصدمات ذات طبيعة معقدة ﺑﺷﮐل ﻋﺎم وﻟذﻟك ﻓﺈﻧﮭﺎ ﺗﺗطﻟب اﺳﺗﺟﺎﺑﺎت ﻣركبة، وإن مزيجا من الاستراتيجيات والممارسات أمر ضروري للوصول للمرحلة الأخيرة من علاج الصدمة والتي أطلق عليها دمج الصدمة، وفي هذه المرحلة يتمكن المصدوم من الوصول لاستبصارات تعينه على دمج خبرات الصدمة مع مصادر قوته التي كونها عبر السنين، مما ييسر الحفاظ على استمرارية آثار العلاج”.
ومن خلال تجربتها الشخصية بصفتها أحد الناجين، ومن خلال خبرتها العلمية كمعالج متخصص، تصف لنا عدة أشياء مهمة تجعل الاستجابة للصدمات النفسية مستدامة، وهذه الخطوات تتم بمساعدة المعالج، ولكن من المهم ذكرها هنا لكل الناجين من الصدمات ليسهل عليهم توقع ما سيمرون به خلال رحلة علاجهم:
1. احصل على دعم أحد المتخصصين المدربين في علاج الصدمات
تحدث الصدمة في معظم الحالات كنتيجة للعلاقات بشخص آخر، وفي جميع الحالات يكون لها عواقب كبيرة على قدرة المصدوم على إدارة علاقاته، لذا فإن العمل على علاج الصدمة في إطار علاقة آمنة ومضمونة، وفي ظل وجود معالج محنك، هو المفتاح للانتقال من معايشة جروح الصدمة إلى المرحلة الأخيرة من العلاج وهي مرحلة “دمج الصدمة”.
وبالطبع فإن العديد من الناجين يحققون بعض التقدم في إدارة آلامهم الخاصة، لكن في الواقع، لا يملك الكثيرون خيارًا سوى أن يفعلوا ذلك بأنفسهم لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى الموارد للحصول على الدعم. ومع ذلك، فإن الطرق العميقة الأثر التي تؤثر بها الصدمة على ضحاياها تجعل من الصعب عليهم الوصول لمرحلة الدمج التام للصدمة بدون مساعدة متخصصة، ومن ثم يعتبر الحصول على مساعدة الخبراء ذا فائدة كبيرة للمصدومين، سواء من حيث السرعة أو من حيث استدامة الآثار العلاجية.
مع ذلك، فمن الضروري أن يكون المتخصصون الذين يقدمون علاجات متعمقة مع الناجين على دراية بأحدث المستجدات في طرق علاج الصدمات، حيث حققت الدراسة وممارسة الاستجابة للصدمة تقدما هائلا في العقدين الأخيرين، ومن المعترف به الآن أن الاستجابات التي افترض سابقا أنها كانت مفيدة، وعلى سبيل المثال، تشجيع الناجين على إعادة سرد تفاصيل تجربتهم، قد تحدث صدمات جديدة إذا استخدمت بعد وقت قصير من الحدث الصادم، أو إذا استخدمت بطريقة خاطئة أو بواسطة معالج غير حساس للصدمة.
2. مصادر الدعم واسعة ومتعدده.. فاجعل عقلك مفتوحا لمصادره
آثار الصدمة متنوعة؛ عاطفية وبدنية ومعرفية وروحية واجتماعية، وفي رحلتك الخاصة لعلاج الصدمة ودمجها، استفد من دعم المحترفين في كل من هذه المجالات.
لذا قم مع المعالج المتخصص بإجراء مراجعة منتظمة للموارد المتاحة للحصول على الدعم من مجموعة متنوعة من التخصصات والخلفيات، واكتشف معهم مزيجًا من الأنشطة التي تناسب احتياجاتك ووقتك وأوضاعك المالية.
3. صمم لك روتينا من الممارسات اليومية وحافظ عليه
لا يحدث الشفاء عبر خط مستقيم من التقدم المستمر، فربما نشعر وقتا ما أن الأمور تتحسن أخيرا، ثم نتعرض لمثيرات تحدث أزمة جديدة؛ فالحياة تجلب الألم للجميع بالطبع، وعلاوة على ذلك، فإن الناجين من الصدمات يعانون من نقاط الضعف الخاصة التي ستكون دائمًا معهم، ومن غير الواقعي توقع استمرار التقدم الذي تم تحقيقه بدون الحفاظ على مجموعة من الممارسات الروتينية.
لذا فإن المهمة الأساسية للمعالج هي مساعدة من يعالجهم على تحديد ما يسمى خطة الاستدامة الفردية (ISP – Individual Sustainability Plan)، وهي مجموعة من الأنشطة اليومية التي ينخرط فيها الناجي على مدى فترة طويلة لأغراض مساندة النفس.
وفي سياق العلاج الاحترافي، يأتي تصميم خطة الاستدامة الفردية بعد القيام بعمل تمهيدي أساسي من أجل الاتصال بمواردنا الداخلية وإرساء الشعور بالأمان، وتشمل الخطة عادة الممارسات التي تعالج الجوانب المتعددة للحياة، العاطفية والعقلية والجسدية والروحية والاجتماعية، والتي تلعب دورا هاما في الرفاه.
4. التساهل الذاتي أم الرعاية الذاتية أم الاستدامة الذاتية
أصبح استخدام مصطلح “الرعاية الذاتية” شائعا جدًا في هذه الأيام لدرجة أن الناس يفهمونه أحيانًا على أنه يعني التساهل الذاتي. لتجنب هذا الارتباك، تقسم الرعاية الذاتية إلى ثلاثة مستويات: الاستمتاع، الرعاية الذاتية، والاستدامة الذاتية.
أول مستوى من مستويات رعاية الذات هو الاستمتاع من خلال ممارسة الأشياء التي توفر إشباعًا فوريًا، حتى إذا لم يكن الهدف منها أكبر من الشعور بالرضا في الوقت الحالي، ومثال ذلك مشاهدة فيلم، أو مباراة، أو مقابلة الأصدقاء، أو ما إليه.
أما أنشطة الرعاية الذاتية فهي أنشطة ممتعة أيضًا، ولكن بها عنصر إضافي مهم وهو الاحتفاظ بالروتين، ومن ثم تسهم أنشطة الرعاية الذاتية في تحقيق الصيانة اليومية وتشمل التمارين الرياضية، والنوم، والنظام الغذائي، والتفاعل مع الأحباء، وما إلى ذلك.
أما أنشطة الاستدامة الذاتية فتدعم التمتع بالرعاية الذاتية المتعمدة، مع إضافة بُعد ثالث وهو التأمل الذاتي، ويهمنا في العلاج أن نحافظ على الأنشطة في المستويات العليا بشكل مستمر.
وفي العلاج فإن التركيز الرئيسي لهذه المرحلة الثالثة عادة هو التنظيم الذاتي، لأن صعوبات التنظيم الذاتي هي بالنسبة لمعظم العملاء أكبر خطر يعيق الانخراط في أنشطة تحفز المتعة وتحافظ على الرعاية الذاتية؛ لذلك، يعمل المعالج مع العميل في التفكير فيما هو ميسر وما هو غير ميسر، ولماذا، وعلى ملاحظة النوايا، والمحفزات، والأحاسيس، الداخلية والخارجية على حد سواء، والتعلم من هذه الملاحظة.
5. خطة الاستدامة الفردية تكمل أي طريقة علاجية
لا تحل خطة الاستدامة الفردية محل العلاج، بل تكمله، من خلال توفير الصيانة الأساسية للأشخاص الذين يعانون من الإجهاد أو الصدمة. بغض النظر عن النهج العلاجي الذي يستخدمه المعالج معك للتعامل على الصدمات، فإن خطة الاستدامة الفردية ضرورية لتوفير أساس للاستقرار.
قد يستمر العملاء في الاستفادة من العلاج في مجالات خبرة المستشار حتى في غياب خطة الاستدامة الفردية؛ لكن التقدم سيبقى محدودًا بسبب عدم وجود استراتيجية للتعامل مع العميل ككل، لذا يتطلب العمل مع الناجين من الصدمات من المعالجين توسيع مهاراتهم بما يتجاوز مهارات الاستشارة التقليدية؛ لتقديم خدمة حقيقية للعملاء، وذلك بالتفكير “خارج الصندوق”. وإذا لم يفعلوا ذلك، فلن يكونوا قادرين على مساعدة الكثيرين الذين يظلون عالقين في أعراض الانسحاب حتى بعد مرور عدة سنوات.
* العناصر الأساسية لخطة الاستدامة الفردية
1. تحديد الصعوبات التي يواجهها الناجي في الحفاظ على ممارسات الرعاية الذاتية، والبحث عن بدائل تعزز الحياة.
2. الكشف عن الضغوطات الخارجية والتنبيهات الداخلية الثانوية، وخلق ممارسات تسهل التنظيم الذاتي، وأدوات وتقنيات التعلم لتقليل الضغوطات. الهدف هو التعرف على الحالات، والعلاقات الأكثر شيوعًا، والإشارات المضمنة التي تسبب صعوبة، ثم وضع استراتيجيات للحد من تأثيرها.
3. تحديد وإعادة توجيه أنماط التفكير، وعلى سبيل المثال، تحويل أفكار الحكم على الذات إلى التراحم معها.
4. الاتصال بالموارد الداخلية والخارجية التي تدعم المتانة النفسية المرنة (resiliency)، وتحديد الأنشطة لتعزيز الوصول إلى الموارد، وإذا لم يتمكن الناجي من تحديد أي شيء، فتمكن مساعدته على إنشاء مساحة تخيلية.
5. كتابة اليوميات ومشاركتها مع شخص ثقة، وتمكن المشاركة مع المعالج، حيث تتيح كتابة اليوميات علاقة مستمرة يومية بين الناجي ومعالجه، وتوفر للناجي إحساساً إضافيا بالاحتواء.
6. العمل على ضبط محور الاتصال بين الدماغ والأمعاء، فعلى الرغم من أن الأبحاث حول تأثير النظام الغذائي على الأداء العاطفي لا تزال في مهدها، إلا أن الارتباط أصبح الآن واضحًا جدًا بحيث لا يمكن تجاهله؛ وبعد عدة سنوات من الدراسة، هناك قناعة أنه من المستحيل تحقيق استدامة دمج الصدمات دون الالتفات إلى ذلك الأمر، ومن ثم يعتبر من الضروري مساعدة الناجين على التعرف على النظام الغذائي والتغذية الأمثلين لهم، بهدف تحديد أي الأطعمة التي لها تأثير مثير أو مهدئ، ومساعدة الناجي على وضع نظام غذائي واختيار المكملات وفقا لذلك، من أجل استعادة التوازن إلى بكتيريا الأمعاء.
7. الفرح؛ من خلال الاستكشاف الأسبوعي للأنشطة والروتينات التي تجلب الفرح للناجين، ويمكن أن تكون هذه الأنشطة عبارة عن هوايات، أو تفاعلات، أو علاقات.
8. التعاطف الذاتي، حيث يحتاج الناجون من الصدمات لهذا التعاطف ليتمكنوا من التعامل بفعالية مع إصابات ما بعد الصدمة مثل (العار، والشعور بالذنب، وما إلى ذلك) من خلال ممارسة التراحم الذاتي، وتدريبات الوعي الآني، واللطف مع النفس، وغير ذلك من الأنشطة الجسدية والنفسية مثل (التأمل، واليوغا والتعبير الفني، وتمارين الرقص والحركة) لتجربة التراحم الذاتي.