أصبحت السماء أكثر وعورة إلى درجة جعلتنا في أمس الحاجة إلى فهم ما يحدث من مطبات هوائية والتنبؤ بها بغية تفادي وقوع حوادث الطائرات، وهو ما دفع العلماء إلى دراسة الطيور التي يمكن أن تقدم حلولا في هذا الشأن.
عندما تنظر إلى أعلى، قد تبدو لك السماء صافية وهادئة، بيد أن الهواء في حركة مستمرة وينساب مثل الماء، في ظل وجود دوامات وتيارات، وأحيانا تكون هذه الانسيابية سلسة وهادئة، وأحيانا أخرى تحدث بطريقة تتسم بالاضطراب والعنف.
وتعد المطبات الهوائية واحدة من أكثر الظواهر الجوية التي لا يمكن التنبؤ بها، وتشير الدراسات إلى أن المطبات الهوائية الشديدة يزداد حدوثها في ظل ارتفاع درجة حرارة الكوكب، فإذا تعرضت طائرة لمطب هوائي، فقد يسبب ذلك إصابات للركاب أو حتى الوفاة، فضلا عن الأضرار التي قد تصيب جسم الطائرات.
وكانت طائرة تابعة للخطوط الجوية السنغافورية في رحلة قادمة من لندن قد تعرضت، يوم الثلاثاء الماضي، إلى مطبات هوائية شديدة أدت إلى وفاة شخص وإصابة 31 آخرين، وقال الركاب الذين كانوا على متن الطائرة، طراز بوينغ777-300 إي آر، لبي بي سي إن الطائرة بدأت تتمايل وتهتز، قبل أن تسقط فجأة، مما أدى إلى “دفع الأشخاص والأشياء نحو مقصورة الطائرة”.
والسؤال الملح هل يمكن أن تكون هناك طرق أفضل للتنبؤ بالمطبات الهوائية والتعامل معها؟ ويعتقد بعض العلماء أن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في دراسة عالم الطيور.
وتقول إميلي شيبرد، الخبيرة في طيران الطيور وانسياب الهواء في جامعة سوانسي في ويلز، إن الطيور تواجه غالبا أثناء التحليق سماء غير سلسة، في حين أن عددا قليلا فقط من الطيور يستطيع التحليق على ارتفاعات تعادل مستوى ارتفاع طائرة تجارية، لذا قد تساعد دراسة الطريقة التي تتعامل بها هذه الطيور على ارتفاعات منخفضة علماء الأرصاد الجوية في بناء نماذج أفضل للتنبؤ بالمطبات الهوائية.
وتضيف إميلي شبيرد أن هذا ليس كل ما يمكن أن نتعلمه من أصدقائنا الطيور، فبعض الأنواع تكيفت للتعامل مع “المطبات الهوائية الشديدة”، وقد يساعد دراسة كيفية استغلال الطيور ذلك لصالحها في تصميم الطائرات، لاسيما في بيئة المدن التي تُستخدم فيها الطائرات الصغيرة والمسيّرات.
وخلصت دراسة أجريت عام 2024 إلى أن الطائرات تواجه مطبات هوائية جوية متوسطة إلى “شديدة أو أكبر” 68 ألف مرة كل عام، وتُعرف المطبات الهوائية بأنها “حركة غير منتظمة للهواء” ناجمة عن دوامات وتيارات عمودية، ويرتبط حدوثها بظواهر جوية مثل الجبهات الهوائية، وتغير في اتجاه وسرعة الرياح والعواصف الرعدية.
ويمكن أن تتسبب المطبات الهوائية في حدوث بعض الصدمات غير المريحة، أو قد تؤدي إلى خروج الطائرة عن نطاق السيطرة، مما يؤدي إلى حدوث “لفات عشوائية وتأرجح وانعراج (للطائرة)”.
وقد لجأت شركات التصنيع إلى تجهيز الطائرات الحديثة بأنظمة رادار طقس متطورة يستخدمها الطيارون لتحديد المناطق التي تعاني من المطبات الهوائية من أجل تفاديها،.
ويقول بول ويليامز، عالم الغلاف الجوي في جامعة ريدينغ: “يمكننا التنبؤ بنجاح بنحو 75 في المائة من المطبات الهوائية لمدة تصل إلى 18 ساعة”.
وعلى الرغم من ذلك توجد أنواع عديدة من المطبات الهوائية، بعضها قد يصعب اكتشافه، وغالبا فإن المطب الهوائي الشديد الذي ضرب طائرة رحلة الخطوط الجوية السنغافورية كان “مطب هوائي واضح” غير مرئي، وقد يحدث ذلك دون سابق إنذار، وهو أحد أكبر أسباب وقوع حوادث الطائرات ذات الصلة بالطقس.
وتحدث مطبات هوائية واضحة على ارتفاعات عالية، أثناء تحليق الطائرات في سماء زرقاء تبدو هادئة، ولا يمكن رؤية تلك المطبات بالعين المجردة ولا يمكن اكتشافها بواسطة أجهزة الاستشعار الموجودة على متن الطائرة، وحتى الأقمار الصناعية لا يمكنها رؤية هذا النوع من المطبات الهوائية، لذا يضطر الطيارون غالبا إلى الاعتماد على أي طائرة تحلق على نفس المسار أمامهم للإبلاغ عن وجود مطبات هوائية واضحة، حتى يتمكنوا من تعديل مسارهم.
ويقول ويليامز إن تغير المناخ يجعل المطبات الهوائية في الأجواء الصافية أكثر شيوعا. ويضيف: “بعبارة بسيطة، يؤدي تغير المناخ إلى زيادة الفرق في درجات الحرارة بين الكتل الهوائية الساخنة والباردة التي تصطدم بطائرة نفاثة في الغلاف الجوي العلوي، وهذا التأثير يجعل الطائرة غير مستقرة ويسمح بحدوث المزيد من المطبات الهوائية.”
ويسعى علماء الأرصاد الجوية الآن إلى تطوير أساليب أفضل للتنبؤ بجميع أنواع المطبات الهوائية، باستخدام نماذج حاسوبية، وعلى الرغم من ذلك، فإن أحد مصادر البيانات التي أمكن الاستفادة منها حتى وقت قريب هي الكائنات التي نتشارك معها السماء، أي الطيور.
وخلصت دراسات سابقة إلى أن حركات الطيور يمكن أن تساعدنا في تحديد قوى التيارات الحرارية الصاعدة واتجاه الرياح وسرعتها.
ويقول باحثون من جامعة سوانسي إن تجربة تعامل الطيور مع الرياح يمكن أن تساعد في التنبؤ بالمطبات الهوائية، وغالبا ما تهاجر الطيور لآلاف الأميال، بعد أن تحدد سرعة الرياح واتجاهها واضطرابها المسار الذي ستسافر عبره وكمية الطاقة التي ستبذلها، وعندما تركض في المحميات في نهاية رحلة ملحمية في منتصف الطريق حول العالم، فإن ركوب الرياح الخاطئة قد يعني فرقا بين الحياة والموت.
وعلى الرغم من أن معظم الطيور لا تطير قريبة من الطائرات التجارية، فإن بعضها يصل إلى ارتفاعات عالية جدا، فعلى سبيل المثال طيور الفرقاطة، حسبما تقول الخبيرة شيبرد، توصف رحلاتها بأنها “أفعوانية”، نظرا لاعتمادها على درجات الحرارة والرياح للبقاء عاليا لمدة أشهر ويمكنها الطيران على ارتفاعات شديدة تصل إلى 13 ألف قدم بسرعة (4 كم / 2.5 ميل) فوق سطح الأرض، وللوصول إلى مثل هذا الارتفاع الشاهق، تصطدم غالبا بتيارات صاعدة قوية في السحب الركامية الجبلية.
وتضيف شيبرد: “تحلق الطيور على ارتفاعات داخل هذه الأنظمة السحابية المضطربة حقا، وتتعرض لتيارات صاعدة وهابطة عنيفة، كما أنها تطير في بيئات مضطربة بشكل لا يصدق، ونحن لا نعرف سوى القليل عن قدرتها بشأن الحفاظ على التحكم في الطيران.”
وتهدف شيبرد وزملاؤها في مختبر حركة الحيوانات بجامعة سوانسي، من خلال دراسة كيفية استجابة الطيور للمطبات الهوائية، إلى “معرفة ما هو غير مرئي”، ورسم خريطة لما يحدث في الهواء.
ولتحقيق هذا الهدف في بعض الأحيان يتعين الطيران إلى جانب الطيور، فخلال عامي 2018 و2019، استطاع فريق شيبرد التحليق بطائرة خفيفة للغاية إلى جانب سرب من الحمام الزاجل، واستخدم نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس)، فضلا عن أجهزة تسجيل بيانات الضغط الجوي والسرعة المثبتة في الطيور، لأكثر من 88 رحلة، وقياس مستويات المطبات الهوائية أثناء الرحلات التي قامت بها الطيور.
وتقول شيبرد: “إنها تجربة مباشرة للغاية”، إذ استطاع فريقها الطيران في ظروف مختلفة، في الصباح الباكر عندما كانت درجة حرارة الأرض أقل من كونها تسبب تيارات الحمل الحراري، وفي وقت لاحق من اليوم عندما كانت درجات الحرارة أعلى، وفي أوقات مختلفة خلال السنة.
وتضيف: “اضطر الطيار في مناسبات عدة إلى الهبوط أو اتخاذ قرار بعدم الطيران مرة أخرى في ذلك الصباح، لأن المطبات الهوائية كانت شديدة وتؤثر على قدرته على الحفاظ على التحكم في الطيران. وكانت الأجواء مليئة بالمطبات الشديدة بالنسبة له”.
وتتابع: “بيد أن الحمام عاد قواعده دون أي مشكلة، لذا، يستطيع الحمام التعامل مع مستويات عالية من المطبات الهوائية، أكثر من الخفيفة للغاية. ومن الواضح أن لديها آليات للتعامل مع هذه المطبات الهوائية.”
وتشير الدراسات التي أجرتها جامعة سوانسي إلى إمكانية استخدام أجهزة الاستشعار التي تحملها الطيور لتسليط الضوء على المطبات الهوائية، تماما مثل أجهزة الاستشعار المحمولة التي تُستخدم في قياس الملوحة ودرجة حرارة البحر.
وفي هذا الامر تقول شيبرد: “يضع الناس بالفعل علامات للطيور لأسباب عديدة وفي الكثير من البيئات المختلفة، بغية أخذ عينات باستمرار وبطريقة فعّالة من البيئة.”
وتضيف أن الطيور يمكن أن تعمل كأجهزة استشعار للأرصاد الجوية أثناء تحركها، إذ تقوم باستمرار بجمع البيانات حول المطبات الهوائية التي تتعرض لها على طول مسارات طيرانها، وتقول إن ذلك أرخص من استخدام أجهزة الاستشعار المجهّزة بالطائرات، فضلا عن كون الطيور بإمكانها الطيران في ظروف لا تستطيع الطائرات التحليق فيها.
وفي دراسة أخرى أجريت عام 2020، تقول شيبرد وزملاؤها إنهم استطاعوا توثيق تحليق نسور كندور الأنديز، وهي أثقل الطيور المحلقة في العالم، وتحديد متى وكيف وصلت الطيور إلى هذه الارتفاعات، مع تسجيل كل ضربة جناح.
وكشفت البيانات عن أدنى مستويات طيران مسجلة لأي طائر يتجول بحرية، حيث قضى الكندور 99 في المائة من وقت الرحلة بشكل لا يصدق في وضع انزلاق، دون رفرفة جناح على الإطلاق، حتى أن أحد الطيور بقي في الهواء لأكثر من خمس ساعات، لمسافة تزيد على 170 كيلومترا، دون رفرفة جناح واحدة.
وتسلط هذه الدراسة الضوء بدقة على الطريقة التي تستغل بها الطيور المحلقة حرارة الجو، وهي طريقة يمكن أن تغذي برامج الطائرات المستقلة.
وتبين شيبرد إن دراسة كيفية تحليق طيور النورس فوق المباني يمكن أن تساعد أيضا عندما يتعلق الأمر بتحديد مسارات المسيّرات في المدن، وبطريقة مماثلة للطيور، يؤثر هبوب الرياح والمطبات الهوائية على المسيّرات أكثر بكثير من الطائرات الأكبر حجما، مما يجعل الطيران على ارتفاعات منخفضة على مقربة من التضاريس والمباني أمرا بالغ الصعوبة.
وتقول ان: “بيئة المدن مضطربة للغاية، توجد كل العقبات التي تعترض سبيل الانسيابية، لذا يعد التفكير في كيفية العمل بأمان، تحديا مستمرا، لا سيما على مقربة من المباني، مع وجود خطر يتمثل في احتمال أن تهب الرياح على الطائرة باتجاه مبنى وتتحطم”.
وتشير الى أن نمط المدن يسهم أيضا في زيادة المطبات الهوائية في السماء، وتقول: “تأثيرنا على الأجواء أسفل بشكل كبير، يؤثر على البيئة الجوية في الأعلى، وعلى الرغم من ذلك لم نفكر حقا في دراسة المدن من حيث كونها تؤثر على التكاليف وقدرة الطيور على التحليق فوقها”.
وتختتم شيبرد: “لا تزال توجد أسئلة كثيرة بشأن المطبات الهوائية”، ولكن هناك شيء واحد مؤكد، وهو أن رحلاتنا الجوية حول العالم ستصبح أكثر صعوبة، وقد تستطيع الطيور أن تعلمنا شيئا عن كيفية التحكم في الطائرات اثناء تحليقها في السماء.