هل سن الشيخوخة فترة ذهبية لبناء أفضل صداقات العمر؟

تتغير أهدافنا الاجتماعية بطرق عديدة طوال مراحل عمرنا، وتقول دراسات إن تفهمنا لهذه الحقيقة قد يساعدنا في بناء علاقات طيبة مع الآخرين.

والسؤال هل تُفضّل لقاء كثير من الأشخاص الجدد، أم ترغب في قضاء وقتك مع دائرة مصغّرة من الأصدقاء المقرّبين؟ قد تعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على طبيعة شخصيتك إن كانت منفتحة أم انطوائية، بيد أن العامل الحاسم الآخر الذي يحدد رغباتنا الاجتماعية هو “العمر”.

ويستفيد الأشخاص في جميع مراحل العمر من علاقات الصداقة، بل تلعب دوراً في تحسين الصحة، وفقاً لما خلُصت إليه مجموعة كبيرة من الدراسات، كما تصبح علاقات الصداقة، في مرحلة لاحقة من الحياة، مصدراً مهماً على نحو خاص يبعث في نفوسنا السعادة والرضا، بل يعزز التواصل المستمر مع صديق مقرّب الشعور بالسعادة في سن الشيخوخة أكثر من تلك السعادة القادمة من عائلة قريبة.

بيد أن الطريقة التي يختار بها كبار السن صداقاتهم ويحافظون عليها تختلف مقارنة بالطريقة التي يتبناها الشباب. وتقول كاثرين فيوري، أستاذة علم النفس بجامعة أديلفي في نيويورك، إنه في الوقت الذي يميل فيه الشباب إلى البحث دوماً عن علاقات جديدة، يلجأ كبار السن إلى تقليص دائرتهم الاجتماعية عمداً.

وتضيف أنه على الرغم من كون تقليص عدد العلاقات في حياتنا ينطوي على مزايا مهمة، فإنه ينطوي أيضاً على بعض العيوب الجديرة بتسليط الضوء عليها.

وواحدة من مزايا بناء دائرة علاقات مصغّرة هي أن العلاقات المتبقية المختارة بعناية تتسم بجودة عالية.

وتقول فيوري: “مع تقدم العمر، تتغير وجهة نظر الأشخاص بشأن المستقبل، نظراً لأن لديهم وقت أقل للعيش، كما تتغير أولوياتهم، ويميلون إلى التركيز على الأهداف الاجتماعية والعاطفية”.

ويُعرف ذلك أيضاً بنظرية الانتقائية الاجتماعية والعاطفية. فبينما يرى الشباب مستقبلهم أوسع على نحو يدفعهم إلى التركيز على بناء علاقات جديدة، يعطي كبار السن أولوية لقضاء وقتهم مع أشخاص يعرفونهم جيداً، وبالتالي يقلّصون دائرة علاقاتهم.

وتوضح فيوري أن تقليص تلك العلاقات الضعيفة أمر يتعمده كبار السن، لأنهم يركزون على تنمية علاقات وثيقة في ظل شعورهم باقترابهم من حافة الموت.

“توسع مقابل تقليص”

خلص باحثون إلى أن جزءاً من هذا التقليص يكمن في تخلّص كبار السن عمداً من معارف أقل قرباً منهم في دائرة علاقاتهم، وهذا يعزز ما يسمى بـ “الكثافة العاطفية” لدائرتهم الاجتماعية، ما يعني أنهم يعملون على بناء مجموعة أصغر من العلاقات تكون أكثر تماسكاً.

وتشير دراسات إلى أن كبار السن يميلون إلى التحلي بقدر أكبر من التسامح والإيجابية تجاه الأشخاص في علاقاتهم التي اختاروها، كما يسعون إلى الاستمتاع بالحياة والوقت المتبقي على حد سواء.

ويتفق هذا التركيز على السعادة والاستمتاع بالحياة مع نتائج دراسة أخرى عن دور “الإيجابية” في سن الشيخوخة. فعلى سبيل المثال، ومقارنة بأشخاص بالغين أصغر سناً، يتحلى كبار السن عموماً بالإيجابية، ويركزون على الأحداث والذكريات الإيجابية في الحياة، وهي ظاهرة معروفة باسم “تأثير الإيجابية”.

وعلى الرغم من ذلك لا يلزم أن تكون مسنّاً لتجربة هذا التأثير المتمثل في التركيز بقدر أكبر على العلاقات الوثيقة والسعيدة والإيجابية، إذ أفادت دراسة أجريت في عام 2016، بأنه عندما يُطلب من الشباب إمعان التفكير في هشاشة الحياة وتذكيرهم بالعُمر المحدود على الأرض، فإنهم يغيّرون أهدافهم الاجتماعية من استراتيجية أكثر توسعاً إلى استراتيجية أكثر تركيزاً.

وتقول الدراسة: “تشير النتائج إلى أن الفروقات العمرية الظاهرة في الدوافع الاجتماعية للأشخاص تعكس مساحة زمنية أكبر مما يعكسه العمر الزمني نفسه”. بعبارة أخرى، فإن مقدار الوقت الذي نعتقد أننا نمتلكه يؤثر على استراتيجيتنا الاجتماعية أكثر من عمرنا الفعلي.

“ترحيب بأصدقاء جدد”

ويوصي الباحثون بأنه من المستحسن، في ظل حرص الشخص على تنمية تلك العلاقات الوثيقة، أن يظل منفتحاً على بناء علاقات صداقة جديدة.

وتوصلت فيوري وزملاؤها إلى نتيجة مفادها أن تقليص دائرة علاقات الشخص كثيراً ليس أمراً صحياً بالضرورة، مضيفة أنه لا يوجد دليل يشير إلى أن تركيز الشخص حصرياً على علاقاته الوثيقة يفيد الصحة النفسية أو الجسدية في أي مرحلة من مراحل العمر.

وتقول: “الصداقات مفيدة جداً لحياة الناس الاجتماعية في مراحل العمر، نظراً لأن العلاقات المختلفة تؤدي أدواراً مختلفة”.

وتفسر: “تميل علاقاتنا الأقرب إلى أن تكون علاقات تمنحنا الدعم الاجتماعي والعاطفي والعملي، لكن هناك وظائف أخرى تمنحنا إياها تلك العلاقات، وهي وظائف بنفس قدر الأهمية إن لم تكن أكثر أهمية، لكنها غالباً تأتي من أشكال علاقات مختلفة”.

وتمنحنا صداقاتنا، على سبيل المثال، حافزاً فكرياً، أو تسمح لنا ببساطة بالاستمتاع. والفرق الرئيسي هو أن الصداقات عبارة عن علاقات طوعية وغير إلزامية، تبدأ أو تنتهي في أي وقت.

وتؤكد هذا الرأي ألكسندرا طومسون، باحثة في الصحة النفسية في جامعة نيوكاسل في المملكة المتحدة، وتقول: “تمنحنا الصداقات مزايا مختلفة قليلاً مقارنة بعلاقاتنا الأسرية لأسباب مختلفة، ففي الوقت الذي يمكن أن تتسم فيه العلاقات الأسرية بالتوتر، وهي علاقات قائمة على الالتزام، تركز الصداقة على الاهتمامات المشتركة، وهذا يعزز الحالة المزاجية الإيجابية لدى الشخص”.

وخلصت دراسة استقصائية جمعت عدة دراسات شملت نحو 309 آلاف فرد، ومتابعتهم لمدة 7.5 سنة في المتوسط، أن الأشخاص الذين يتمتعون بعلاقات اجتماعية كافية لديهم احتمالات أكبر بنسبة 50 في المائة لزيادة العمر مقارنة بأولئك الذين يتمتعون بعلاقات اجتماعية ضعيفة أو غير كافية.

تقول فيوري إنه على الرغم من جميع الجوانب الإيجابية للعلاقات في سن الشيخوخة، يواجه كبار السن بعض العقبات التي يمكن أن تجعل لقاء الناس أمراً صعباً للغاية.

وتضيف أن كبار السن لا تتاح لهم الفرص الاجتماعية في المدرسة أو الجامعة أو مكان العمل، وقد يعانون من الحزن والوحدة بسبب رحيل أصدقاء أعزاء، وهو ما قد يفضي إلى تدهور الأداء الإدراكي أو حدوث اعتلال حركي على نحو يفاقم الصعوبات، وإذا كان الشخص انطوائياً بطبيعته، يكون الاقتراب من أشخاص جدد أمراً شديد الصعوبة.

وتتحدث فيوري عن عامل آخر يتعلق أكثر بطريقة تفكيرنا، لاسيما تصورنا للشيخوخة، وتقول: “إذا رأى شخص نفسه على أنه (يتدهور من الناحية الصحية، ويقول إن أحدا لا يريد أن يكون صديقا له بعد الآن، و(يعتقد) أنه لم يعد لديه ما يعيش من أجله)، فهذا النوع من الأشخاص لن يخرج ويسعى إلى بناء صداقات، بيد أن الشخص الذي لديه صورة أكثر إيجابية عن الشيخوخة سيفعل ذلك”.

وترى أن التدخل العلاجي من خلال تصحيح المفاهيم قد يكون مفيداً لمكافحة هذا الأمر، وهو أي نوع من التدخل يهدف إلى تغيير الفهم بطريقة تساعد كبار السن من أجل تكوين تصور أكثر إيجابية عن الشيخوخة.

وتقول: “تمثل تصورات الشخص عن الشيخوخة نبوءات تكشف المزيد من التفاصيل، فكبار السن الذين يعتقدون أن أواخر العمر مرتبط بخطر الشعور بالوحدة هم الفئة الأقل ميلاً للاستثمار في بناء العلاقات. وعلى النقيض يصبح كبار السن الذين ينظرون إلى عمرهم بطريقة أكثر إيجابية ويعتقدون أنه لا يزال من الممكن وضع خطط جديدة والمشاركة في أنشطة جديدة هم الفئة الأكثر ميلاً للاستثمار في بناء العلاقات. وهذه الاستثمارات في العلاقات الاجتماعية تحمل جوانب إيجابية في الحياة”.وتضيف فيوري: “يكتسب الناس بمرور الوقت مهارات اجتماعية. فكبار السن أكثر مهارة من الناحية الاجتماعية مقارنة بالبالغين الأصغر سناً منهم، لذا فهم في بعض النواحي أكثر قدرة على تجنب الصراعات”.

“تقليص الفجوة الرقمية”

قد يمثل استخدام الإنترنت فائدة في حياة كبار السن، لا سيما إن كانوا يعانون من تدهور جسدي، إذ يمكن أن تسمح لهم التكنولوجيا بالاستفادة من مجموعة واسعة من المعلومات، فضلا عن مشاركة أشياء مع أصدقائهم. وعلى الرغم من ذلك فهم أبطأ في تبني التقنيات الجديدة مقارنة بصغار السن.

وأجرى باحثون دراسة تهدف إلى معرفة كيف يستخدم كبار السن، الذين تتراوح أعمارهم بين 69 و91 عاماً، التكنولوجيا، وكان كل مشارك يمتلك بالفعل حاسباً لوحياً أو جهازا مشابهاً، وتبين أن التكنولوجيا يمكن أن تساعد في ربط كبار السن بالعائلة والأصدقاء والعالم الأوسع.

وبرهنت الدراسة على أن تحسين معرفة كبار السن بالتكنولوجيا قد يسهم في تحسينات إيجابية على حياتهم.

وقال هارولد، أحد المشاركين في الدراسة: “أعرف مزيداً من المعلومات، كما أشعر أنني على اتصال أكبر بأسرتي. أستمتع بذلك جداً. استمتع بمعرفة الأخبار اليومية ومتابعة الأصدقاء”.

“هل يحدث تغيير في المستقبل؟”

تشير أدلة إلى أن المستقبل يحمل المزيد من التغير الاجتماعي نحو الأفضل، وتقول فيوري إن الفئات العمرية المولودة حديثاً ستستمتع بوقت أطول بكثير مع الأصدقاء حتى سن الشيخوخة، مقارنة بالفئات العمرية المولودة في وقت سابق.

وتقول: “أحد الأشياء التي نعتقد أنها تؤثر على هذا التغيير هو تغير النظرة تجاه الشيخوخة، بعد أن أصبحت تلك النظرة أقل سلبية”.

وتضيف فيوري: “يتوقع زميلي (أوليفر هوكسهولد من المركز الألماني لعلم الشيخوخة) أنه من المرجح مستقبلاً ألا يتحدث كبار السن عن مزيد من الصداقات في دائرة الداعمين لهم فحسب … بل سيقضون وقتاً أطول معهم”.

Exit mobile version