بدأت خلال السنوات الأخيرة تكثر الدراسات وتعقد المؤتمرات وتقام الندوات والمحاضرات حول «الأمن السيبراني» أو «أمن المعلومات» أو «أمن الحاسوب» وذلك بسبب ارتفاع نسب استخدام التكنولوجيا الرقمية الحديثة وبروز الحاجة الماسة لحماية مستخدمي الأجهزة والأنظمة والشبكات والبرامج المتنوعة من أي اختراقات أو هجمات قد تعرض المعلومات لأن تصبح عرضة للوصول إليها أو ابتزاز مستخدميها بصور مختلفة، لذلك كان الاهتمام بمحاور الأمن السيبراني من سرية وسلامة وجاهزية وبما يمكن أن يحققه من فوائد، وبداية نشأته منذ سبعينيات القرن الماضي مع استخدام الكمبيوتر والإنترنت ومحاولات البعض الوصول إلى المستندات والوثائق المهمة، وسعي الدول إلى حماية حدودها وبياناتها العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية من الاختراق والتلاعب، لاسيما ونحن على أعتاب الثورة الصناعية الخامسة والدخول في الحروب السيبرانية.
لكن هناك جانبا آخر لا يقل أهمية عن «الأمن السيبراني» ألا وهو «علم النفس السيبراني». لذا، قامت المدربة في الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب والكاتبة د. ابتسام عباس النومس بتأليف كتاب «علم النفس السيبراني» ليشكل إضافة إلى المكتبة الكويتية والخليجية والعربية بما تضمنه من معلومات قيمة وجوانب فنية وتخصصية في هذا المجال كأحد العلوم النفسية، مستندة في مؤلفها إلى الصادر عن دار المسيلة للنشر والتوزيع، ويضم بين دفتيه 338 صفحة موزعة على مقدمة و6 فصول والمراجع باللغتين العربية والإنجليزية.
وبعد الإهداء الذي قدمته د.ابتسام النومس «لكل المهتمين والمتخصصين بمجال علم النفس السيبراني ودراسة الظواهر النفسية الحديثة، ولكل المجتمع الكويتي، والمجتمع العربي»، بدأت المؤلفة بالمقدمة قائلة: يعتبر علم النفس السيبراني «السيبر سيكولوجي» من المجالات التي مازالت في طور النمو، وفي كل سنة يتضاعف الاهتمام بهذا العلم، وتتضح الحاجة إليه أكثر فأكثر، وإن الانتشار الهائل للأدوات والتطبيقات الرقمية بين أغلب الأفراد بالمجتمعات ساعد على خلق مواضيع كثيرة تستحق الدراسة والملاحظة والتأمل، وهنا يظهر أهمية علم النفس السيبراني كأحد العلوم النفسية.
وتضيف: نحن الآن بعصر الوعي والذكاء الاصطناعي والذي جمعه مفهوم علم النفس السيبراني ويعني «دراسة تأثير التطور التكنولوجي على السلوك البشري» بعد أن كنا بعصر المعرفة، وسننتقل بشكل سريع لعصر المجتمعات الافتراضية، فالعالم يعيش بتنوع الحضارة التكنولوجية، وأصبحت التكنولوجيا الأقرب للإنسان في الحياة اليومية، وأداة لحل مشكلاتك وتحقيق أهدافك، فالفرد يوجه ذاته ويكتسب مهارات تعلم الذات من خلال البحث عبر شبكات المعلومات الرقمية «الإنترنت»، رحلة شخصية تبدأ من الإدراك والفضول لاكتشاف الذات العميقة والمكونة من الأفكار والمعتقدات والقيم دون إصدار الأحكام ويساعدنا في اكتشاف ما حولنا وتكون «الوعي» الذي نحتاج إليه لأنه يساعدنا في البقاء والاستمرار بمسيرتنا والقدرة على مواجهة عصر المجتمعات الافتراضية، كما ان تنوع الأساليب الإلكترونية وتكنولوجياتها أدى إلى ارتفاع الفعالية والكفاءة، وأصبح التعليم الإلكتروني أحد الأنماط المتطورة للتعلم عن بعد والتعلم المعتمد على الحاسوب والشبكات في نقل المعارف والمعلومات وقد تكون تلك المعلومات إيجابية أو سلبية، وقد تساعد على التطوير أو التدمير للذات البشرية وما حولها.
وتقول د.النومس: من المعروف أن الدماغ البشري يتكون من نظام معقد بشكل غير مفهوم من الخلايا العصبية البيولوجية المترابطة، فمفتاح الذكاء هو القدرة على الاستفادة من المعرفة من خلال التفكير واتخاذ القرار والعمل، ولكن الذكاء الاصطناعي سيصبح المحرك الذي يشغل جميع التطبيقات المبتكرة قريبا، ومن المحتمل ألا يمكن لأي شخص الاستغناء عن تلك الشبكات والتفاعل معها بشكل تصبح هي المصدر المتحكم بالعقول والنفوس البشرية.
ولأن هناك سعيا لبناء آلة تفكير حقيقية تكون خارطة طريق لإظهار قدرات جديدة وتحقيق ذكاء آلي حقيقي على مستوى البشر وجعل القدرات البشرية محصورة بأخلاقيات فريدة من خلال التفاعل بين الإنسان وفضاء الإنترنت، والمقصود بها «علم النفس السيبراني» الذي يضمن التفاعل الاجتماعي المؤثر على السلوكيات بأنواعها وتحديد كيفية استجابة الأفراد لبعضهم وتطوير العلاقات والثقة والحفاظ عليها، فأصبح تدخل علم النفس للحفاظ على السلوك البشري ضروريا. ويتطرق الكتاب في فصوله الستة إلى الجوانب الإيجابية والسلبية لتأثير التقنيات الحديثة في السلوك البشري وارتفاع شعبية الإنترنت والشبكات الاجتماعية وتفاعلاتها ليشكل إضافة للمكتبة العرية التي تعاني من ندرة نسبية في كتب علم النفس السيبراني، مع تقديم موضوعاته بصبغة تربوية ليستفيد منه الطلبة والشباب.
يتناول الفصل الأول «مدخل لعلم النفس السيبراني» الأهداف التعليمية، ومفهوم علم النفس السيبراني، حيث إن السيبرانية مشتقة من كلمة سيبر Cyber ومعناها صفة لأي شيء مرتبط بثقافة الحواسيب أو تقنية المعلومات أو الواقع الافتراضي أو أي شيء رقمي وله علاقة بالتكنولوجيا، وأصلها يوناني وتعني القيادة أو الشخص الذي يدير دفة السفينة أي المتحكم أو الموجه، واستخدم مصطلح السيبراني في المفهوم الحديث من قبل عالم الرياضيات الأميركـي نوربــت المؤسـس لـ «السيبرنيتيقية».
أما مفهوم علم النفس السيبراني فهو مجال حديث آخذ بالتطور وهو فضاء واسع يتطور مع تطور تقنيات التواصل الإنساني، وتشير المعطيات إلى أن هذا العلم سيكتسب أهمية كبرى بين فروع علم النفس كونه يتعامل مع دور شبكة المعلومات العنكبوتية في التأثير على النواحي الانفعالية والاجتماعية والمعرفية والصحية والسيكولوجية للكائن البشري ويبحث في مواضيع متنوعة خاصة بالأمن السيبراني بدءا من دراسة التنشئة الاجتماعية عبر الإنترنت، إلى تطوير التكنولوجيا وإنتاج بيئات عمل تساعد بزيادة الإنتاجية، وإجراء بحوث وتجارب في هذا المجال كالإدمان على الإنترنت والتنمر، ويستهدف دراسة التأثيرات النفسية والاجتماعية والظواهر المرتبطة باستخدامات «الويب» بكل تعقيداتها.
ويمكن تعريف علم نفس الإنترنت أو علم النفس السيبراني بأنه مجال البحث والممارسة في علم النفس الذي يتعامل مع طرائق استخدام البشر للخدمات المتعلقة بالإنترنت، كما عرفه عيسى مراد بأنه «العلم الذي يهتم بدراسة العقل في سياق التفاعل بين الإنسان والحاسوب»، بينما عرفه الليثي بأنه: الدراسة العلمية المنظمة لسلوك الفرد واستجاباته في الفضاء الافتراضي وما ينتج عنه من ظواهر»، وقد لاحظ عماء النفس ظواهر مختلفة أشهرها متلازمة الخوف من عدم مشاهدة كل شيء والتصفح المستمر لصفحات الويب بصورة متكررة، والخوف من نسيانه أو افتقاده أو الشعور بالرضا بزيادة المتابعين والإعجابات بما ينشر ويقدم.
وتعرض المؤلفة مجموعة المفاهيم المرتبطة وتداخلها ف«الإنترنت» إحدى الشبكات العالمية التي تنشأ خلال ربط شبكات أصغر من الحواسيب والخوادم، بينما الفضاء السيبراني فهو حيز رمزي أو افتراضي يوجد ضمن نطاق الإنترنت، والترابط بينهما وثيق لوجود الفضاء السيبراني داخل نطاق شبكة الإنترنت وإنجاز جميع العمليات داخل حيزه.
كما تختلف تعريفات الفضاء السيبراني حسب طبيعة كل دولة أو كيان وعلى مدى قدرته على تحديد رؤية استراتيجية للتعامل مع مجال الفضاء السيبراني بشقيه المدني والعسكري ومدى قدرته على استغلال المزايا ومواجهة المخاطر.
ورغم أهمية علم النفس السيبراني في دراسة الظواهر النفسية والاجتماعية الناشئة عن التفاعلات الافتراضية عبر شيكات الويب، وأيضا الاهتمام بتنمية الوعي الرقمي ومفاهيم المواطنة الرقمية التي تجعل المواطن يلتزم بالأعراف والتقاليد والمسؤولية الاجتماعية والقانونية في افعاله عبر الإنترنت وعدم النصب والاحتيال أو انتحال الشخصيات أو نشر الشائعات، إلا أنه مازال علما وليدا يواجه تحديات كبيرة في مواكبة التطورات السريعة لعام التكنولوجيا، كما انه غير متوافر كتخصص مستقل في معظم الجامعات حول العالم، مع أنه يوفر العديد من الفرص الوظيفية كالبحث والعلاج والاستشارة والتعليم، كما يرى آخرون فيه مجالات متعددة منها: الهوية والسلوك على الإنترنت، ودراسات الإدمان، وأنواع إدمان التكنولوجيا وسبل العلاج والتعافي والتنمر الإلكتروني والجريمة الإلكترونية، والعلاج عبر الإنترنت، والواقع الافتراضي. كما تتناول المؤلفة خصائص علم النفس السيبراني والمشكلات النفسية المرتبطة به كاضطراب اللعب على الإنترنت والسلوكيات الانتحارية، والتنمر الإلكتروني والإدمان الجنسي على الإنترنت، والاكتئاب، وتدني احترام الذات وأعراضه كالانطوائية والعدوانية والخجل والكآبة والعزلة الاجتماعية والنبذ، والعلاقات السلبية، والخوف من الضياع والحرمان من النوم إلى السلوك الإدماني واضطرابات الأكل، والارتباطات الإيجابية لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي و«الميمات»، وأيضا العلاج النفسي في الفضاء السيبراني.
العلاقات الاجتماعية في العالم الافتراضي
وفي الفصل الثاني، تناول د.النومس العلاقات الاجتماعية في العالم الافتراضي من خلال تأثير العالم الافتراضي في العلاقات الاجتماعية، وطبيعة العلاقات الاجتماعية عن طريق الشبكات الاجتماعية، وخصائص الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت كالمشاركة والتقاسم والتفاعلية ودرجات الانفصال، وسمات وتأثيرات العلاقات عن طريق الشبكات الاجتماعية واتجاهات استخدام الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت في مجال العلاقات الاجتماعية، وكذلك الهوية الافتراضية والتفاعل الاجتماعي بين الواقعية والتخفي، وأيضا أسئلة افتراضية. وما يميز العلاقات عن طريق الشبكات الاجتماعية الاختفاء، وانعدام هوية الفرد واللا تزامنية في رجع الصدى، وتضاؤل أهمية المكانة والمركز والسلطة، والقدرة العالية على التخيل، وافتراض المثالية في الطرف الآخر، الشخصيات المتعددة عبر الإنترنت.
وتشير د.النومس إلى أن الاستخدام المتواصل لمواقع الشبكات الاجتماعية على الإنترنت يهدد بشكل مباشر كيان العلاقات الحقيقية ويقد يحدث القطيعة بين الأفراد، كما أن التصفح الطويل للإنترنت يؤذي نسيج العلاقات الاجتماعية ويسبب الكثير من المشكلات كاعتزال الناس والانطواء وفقدان التواصل وخسارة الأصدقاء وضعف الرقابة الأسرية، وكذلك تغييب الهوية، خصوصا أن التطبيقات التفاعلية للإنترنت نجحت بتحويل العالم إلى قرية كونية، وأيضا بروز أهم ملامح ثقافة الإنترنت، وكذلك الهوية الافتراضية والتفاعل الاجتماعي بين الواقعية والتخفي، وأنماط الشخصية كالمادية والمتعددة والحقيقية، ولغة مواقع التواصل كـ «فيسبوك» و«تويتر» والتي أطلق البعض عليها «الفيسبوكية» أو «العربيزي» وتزايد اعداد مستخدميها واعتماد الشباب عليها في إشباع بعض احتياجاتهم النفسية والاجتماعية وبروز ظاهرة إدمان الشبكات الاجتماعية.
وفي الفصل الثالث، تتناول د.النومس «ثقافة الاحتياجات الشخصية والنفسية في العالم الرقمي»، بادئة بالأهداف التعليمية لتنتقل بعد التمهيد إلى الشخصية وعلاقتها بالمحددات المعرفية والنفية بالعالم الرقمي، ومكونات الشخصية، وأنواع الشخصيات في علم النفس ونماطها، ومعايير تشخيص الاضطرابات النفسية، وعوامل الشخصية لدى مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، وأنماط الشخصيات في العالم الرقمي ومكوناتها، والشخصيات في علم النفس إيجابية منها: الحنونة، واللنفاوية، والشغوفة، والسلبية (العصبية، والتجنبية، والاعتمادية، والوسواسية، والشكاكة)، وعوامل تكوين الشخصية كالبيئة والذكاء والمزاج والخلف والجسم، والاحتياجات النفسية لمستخدمي الشبكات الاجتماعية عبر الويب.
وبالنسبة لتصنيف أنماط الشخصيات في العالم الافتراضي، فهي: الحالمة أو الرومانسية، والمتلصصة والواعظة، والنرجسية والساخرة والاستعراضية، ثم الاحتياجات النفسية لمستخدمي شبكات التواصل واهمية إشباعها، لتصل إلى عدد من الأسئلة التدريبية في نهاية الفصل.
المواطنة والأخلاق الرقمية
وبالنسبة للفصل الرابع «المواطنة والأخلاقيات الرقمية.. رؤية تربوية» فتتطرق فيه المؤلفة إلى الأهداف التعليمية وتعريف المفاهيم وأبعاد المواطنة، والركائز الأساسية لثقافة المواطنة، وأهداف تنمية المواطنة الرقمية، ومعاييرها، ومجالاتها، وأهميتها، والمواطنة الرقمية وخصوصية المعلومات، ومخاطر الثورة الرقمية على أفراد المجتمع العربي، ومحاور مرتبطة بتعليم التلاميذ وتحصيلهم الدراسي إضافة إلى أسئلة تدريبية.
آثار السيبرانية على الصحة النفسية والسلوكية
وفي الفصل الخامس، تقدم د.النومس الأهداف التعليمية، وبعد التمهيد تتناول الاحتياجات النفسية للشباب في الفضاء السيبراني، ومشكلات العلاقات السيبرانية، واتجاهات السيبرانية على الصحة النفسية، والآثار السيبرانية على الصحة النفسية، والاضطرابات النفسية الناشئة من العالم السيبراني، واستراتيجيات مواجهة أضرار الإنترنت واستقرار الصحة النفسية، ودور علم النفس السيبراني بالصحة النفسية، والأساليب العلاجية في مواجهة الآثار السلبية السيبرانية، والإرشاد والعلاج النفسي الإلكتروني.
وبعد ذلك تأتي المؤلفة إلى الفصل السادس «عصر علم النفس السيبراني.. الرؤية المستقبلية الأخلاقية لعلم النفس السيبراني» بأهدافه التعليمية التي يسعى الطالب لتحقيقها ليكون قادرا على التعرف على الأخلاقيات الرقمية، وتحديد أخلاقيات الأبحاث عبر الإنترنت، والتعرف على التربية الرقمية، وعلى دور السيبرانية في تشكيل الهوية الاجتماعية والثقافية المجتمعية، والتعرف على البيئات الافتراضية أو المجتمعات الافتراضية، وعلى الهوية الإلكترونية، وفهم التأثيرات الإيجابية والسلبية للفضاء السيبراني، وتحديد الرؤية المستقبلية لدور علم النفس نحو أخلاقيات العصر السيبراني.
وفي الختام، ونظرا لأهمية علم النفس السيبراني ومجالاته، فقد بات تضمينه في مناهج المراحل الدراسية المختلفة ضرورة ملحة لتوعية الأبناء وحمايتهم من تأثيرات استخدام التكنولوجيا الرقمية والبرامج المتنوعة.