آراء

د.زياد آل الشيخ: تاريخ الأفكار

 

لعلك في مرة من المرات شاهدت حجراً صغيراً يضرب نافذة زجاجية ليصدر صوت طلقة الرصاص في دوي سرعان ما يختفي، ستنظر إلى الزجاج لبرهة بانتظار شيء ما، لكنك لا ترى شيئاً حتى تقترب، وأنت تنظر متفحصاً ستجد خدشاً صغيراً يتفرع منه خيط رفيع، لن يمضي وقت طويل حتى ترى هذا الخيط الرفيع وقد رسم شجرة من الأغصان المعقدة في النافذة الزجاجية التي توشك أن تنكسر، لا ينطبق مثال النافذة الزجاجية على غيرها من النوافذ بأنواعها، ولا على المواد الأخرى كالفخار والسراميك فقط، إنما ينطبق كذلك على تاريخ الأفكار.

في تاريخ الأفكار، يحتل الحاسب الآلي مساحة كبيرة ومتشعبة عبر قرنين قبل أن يبدأ تشارلز بابيج بمحرك التفاضل الذي لم يكمل بناءه، كان للاسم الذي اختاره بابيج دلالة عميقة أبعد من الدور الوظيفي الذي اختاره له، ففي منتصف القرن السابع عشر الميلادي، اخترع الفيلسوف والرياضي لايبنتس جهازاً يعمل آلة حاسبة ميكانيكية تعمل باليد، لكن ما كتبه لايبنتس يوازي في أهميته ما اخترعه، حيث أسس لفكرة الحوسبة الآلية مبكراً، فقد كتب لايبنتس أنه من غير المعقول إضاعة الوقت في حساب عمليات يمكن أن يؤديها أقل الناس علماً بمساعدة حاسبة آلية.

يعرف لايبنتس إضافة إلى مساهماته في الفلسفة، باكتشاف حساب التفاضل والتكامل. ولمعاصرته لنيوتن، فقد نشب خلاف شهير حول من اكتشف حساب التفاضل والتكامل أولاً، ورغم أن لايبنتس قد نشر أفكاره قبل نيوتن، ورغم اعتماد الرسم الذي استخدمه لايبنتس لحساب التفاضل والتكامل، إلا أن الاكتشاف ينسب اليوم إلى الاثنين معاً، وإضافة إلى اختراع الآلة الحاسبة وأفكاره حول الحساب الآلي، كان أول من دوَّن نظام العد الثنائي (الصفر والواحد) الذي تعتمده الحاسبات اليوم، وإذا أخذنا كل ذلك بالاعتبار، وجدنا رابطاً قوياً بين بابيج ولايبنتس رغم المدة الزمنية الطويلة التي تفصلهما.

وإذا تابعنا تشعبات الأفكار الأخرى سنصل إلى نقطة تقاطع تجمع بين الحاسوب والنسيج، فقد اخترع الفرنسي جاكورد محركاً يمكن برمجته بالبطاقات المثقبة للتحكم في نسج الأقمشة، استخدم بابيج الفكرة نفسها في وصف المحرك التحليلي التي اقترحه بديلاً لمحرك التفاضل، ظلت فكرة المحرك التحليلي قيد التنفيذ، إنما كانت دليلاً على الفكرة التي تشعبت مع الوقت عبر أجيال مختلفة من المفكرين والمخترعين.

ربما ارتبط الحاسب الآلي بالرياضيات تاريخياً ارتباطاً وثيقاً، وهو ما يظهر جلياً في الاسم الذي نعتمده اليوم، وإن كانت الأعمال التي تنفذها أجهزتنا اليوم لا تبدو حسابية، إنما ما يجري خلف الستار تبدو كذلك بكل تأكيد، وما يظهر من متابعة تاريخ الأفكار، أن المعرفة لا تعرف الفواصل الزمنية أو المكانية، وكما أن أفكار بابيج لم تنجح تماماً في وقته، إنما كانت مرحلة مهمة في حياة الفكرة نفسها عبر التاريخ.

 

د.زياد آل الشيخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

زر الذهاب إلى الأعلى