أ.د.محمد العسيري: مقتطفات ابتكارية «الورق والحجر»

إن عالم اليوم يزداد تطورا بوجود عديد من الابتكارات المتنوعة التي تنافس بعضها بعضا في كثير من المجالات الاجتماعية والعسكرية الدفاعية والتقنية والبيئية وغيرها، خصوصا مع تطور الأنظمة الإلكترونية والرقمية منها، التي سهلت التعاملات بمختلف أنواعها، فأصبح التواصل باستخدام الابتكارات الإلكترونية الحديثة أكثر سهولة من التواصل عن طريق المكاتبات الورقية “المعتمدة على صناعه الورق، أحد الابتكارات القديمة إن صح التعبير”، إلا أن الطريق إلى مستقبل مشرق يحتاج إلى صناعات ذات جودة واستدامة ومتانة وصديقة للبيئة، ولذا سيكون مقالي اليوم عن الحديث عن أحد هذه الابتكارات المهمة في حياتنا اليومية وهي ابتكار صناعة الورق وآثارها السلبية سواء من الناحية الصحية أو البيئية أو الاقتصادية، وكيف نستطيع بابتكارات مماثلة الحد من تلك الآثار والاستفادة من الموارد المتاحة في سبيل تحقيق قيمة تنافسية واقتصادية فاعلة.
صناعة الورق قديما هي أحد الابتكارات العظيمة التي أثرت في تاريخ البشرية منذ القدم، وهذه الصناعة تعتمد على خشب الأشجار وبعض أنواع النباتات، مثل الصنوبر والتنوب والكينا والتامول والحور وغيرها، وعموما مختصر عملية صنع الورق يتضمن تقطيع الأشجار واستخلاص مادة تسمى السليلوز التي تأتي عادة من لب هذه الأشجار وإضافة مواد كيميائية ومواد مبيضة لصنع عجينة الورق، ويتم استخدام كثير من الماء ثم يتم عصرها وتجفيفها وتسويتها، وبعد عدة خطوات كيميائية وميكانيكية وغيرها يتم من خلالها إنتاج الورق بأشكاله واستخداماته المختلفة التي نشاهدها، ومن الأمثلة على ذلك، في الولايات المتحدة نجد أن معظم منتجاتها الورقية تأتي من خلال أشجار الغابات في كندا ومن أمريكا الشمالية. حيث تشير الإحصائيات إلى أنه بين 1996 و2015 تم قطع أكثر من 28 مليون فدان من أشجار الغابات في كندا فقط لهذه الخصوص.

حيث يتطلب إنتاج طن واحد من اللب ما لا يقل عن طنين من الأخشاب، وهناك عديد من الدراسات العالمية “الصندوق العالمي للحياة البرية” يشير إلى أن نحو 40 في المائة من أشجار الغابات حول العالم يتم قطعها واستخدامها في إنتاج الورق، إلا أن هذه الصناعة أصبحت تشكل خطرا وآثارا سلبية، سواء كانت على البيئة والمناخ من جراء قطع الأعداد الكبيرة جدا من الأشجار والاستهلاك المتزايد للمياه التي تحتاج إليه مثل هذه الصناعة، حيث يتطلب إنتاج طن واحد فقط من ورق لب الخشب التقليدي نحو 18 شجرة طويلة و2770 لترا من الماء، أو أخطار اقتصادية على الدول التي تتملك تصنيعها لتأثر الصناعة نفسها من جراء ذلك، أو أخطار صحية حيث تعد صناعة عجينة الورق أو التخلص من نفايات الورق نفسها من أكبر ملوثات الهواء من جراء انبعاث الغازات الضارة وغازات الاحتباس الحراري، ففي كل من كندا والولايات المتحدة حيث وجد أن مصانع الورق تنتج ما لا يقل عن 100 مليون كيلوجرام من الملوثات السامة سنويا.
وهنا قد نتساءل: لماذا لا تتم عملية التبديل من استخدام الورق إلى استخدام الوسائل الرقمية من خلال الحلول الإلكترونية، خصوصا ونحن نعيش هذا التطور التقني الإلكتروني السريع؟ بالفعل ذلك سيقلل تأثير التلوث البيئي وتكاليف الإنتاج والجهد والوقت، كل ذلك صحيح في حال أن استخدام الورق يقتصر على المكاتبات والتواصل فقط، لكن الاستخدامات الورقية تتعدى ذلك في حياتنا اليومية، فنجد أن المنتجات الورقية ضرورة في استخدامات عدة وفي قطاعات مختلفة، منها الصحية وفي النقل والتغليف وفي صناعة الأثاث والأوراق النقدية وفي غيرها من الصناعات التي ليس لنا غنى عنها، ولذا كان لا بد من التفكير في حلول تصنيعية أخرى تطويرية لصناعة الورق بحيث تعتمد على مصادر أخرى متاحة غير الأشجار لتلافي الأخطار والآثار السلبية التي تسببها.
بدأت الأفكار والاختراعات في هذا المجال تتوالى واستغرقت كثيرا من الوقت والجهد، خصوصا أن هذا الابتكار يجب أن يتوافق مع الحاجة الماسة إليه وفي الوقت نفسه أقل تكلفة وصديق للبيئة في المقام الأول، وبالفعل بدأت نتائج ذلك في أواخر التسعينيات حيث ظهرت أول عملية لتطوير صناعه الورق باستخدام الحجر لأول مرة من شركة Taiwan Lung Meng Tech Co في تايوان، حيث تتم صناعة الورق باستخدام صخور الكالسيت ـ الحجر الجيري “كربونات الكاليسوم” ودون استخدام ألياف السليلوز كمادة خام ودون استخدام الماء على الإطلاق، وباختصار تتم عملية الإنتاج، بصهر مسحوق الصخور الكالسيت في درجات حرارة عالية ويتم تشكيله على شكل صفائح “ورق حجري”، وله مزايا عدة منها لونه أبيض في الأصل لا يحتاج إلى عملية تبييض ويحتفظ بشكله بمرور الوقت ومقاوم للماء ومقاوم للشحوم وقابل للغسل، إلا أنه أكثر صداقة للبيئة كونه لا يستخدم الألياف النباتية كمادة خام كالورق التقليدي.

ما يعني عدم وجود أشجار مقطوعة، ووجد أن تكلفته الإنتاجية تقل بنحو 30 في المائة من تكلفة إنتاج الورق العادي، وسيوفر الأطنان من الأشجار المستهلكة، ونسبة انبعاثات الكربون من هذه العملية أقل بنحو 67 في المائة من صناعة الورق من لب الأشجار، كما أنه مقاوم للماء، ويصعب تمزيقه وقابل لإعادة التدوير، وبدأ بالفعل عديد من الشركات يتسابق في هذه الصناعة، بل عمل بعض الشركات والمراكز البحثية على تطوير هذه الفكرة، بالاعتماد على الموارد المتاحة وبأقل التكاليف، مثل شركة Karst Stone Paper في أستراليا مع توافر الموارد المتاحة لصخور الكالسيوم لاستخلاص كربونات الكالسيوم، إلا أنها استفادة من التجارب السابقة وبدأت من حيث انتهى الآخرون، واستخدمت طريقة أخرى في ذلك وهي جمع كربونات الكالسيوم من مجمعات النفايات والمخلفات الصناعية ومن مخلفات البناء وغيرها.
ونجحت في ذلك، وأصبحت تسوق منتجاتها على مستوى العالم، وغيرها من الشركات، مثل شركة Shenzhen Stone Paper Enterprise Ltd الصينية، وشركة Stone Paper الكندية، إضافة إلى عدة دول أعلنت البدء بهذه الصناعة، مثل تركيا واليابان وروسيا.
مثل هذه الابتكارات أرى توافقها وبشكل كبير مع التطلعات والأولويات الوطنية في مملكتنا الغالية، وفق ما أعلنه ولي العهد رئيس اللجنة العليا للبحث والتطوير والابتكار، التي تشمل أربع أولويات رئيسة في الصحة، واستدامة البيئة، والريادة في الطاقة والصناعة، واقتصادات المستقبل، وأؤكد أن توجه عمل الهيئات البحثية والتطويرية والتصنيعية والمراكز البحثية في الجامعات إلى دراسة مثل هذه الأفكار والابتكارات بإشراك الباحثين والعلماء والموهوبين سواء الوطنية منها أو العالمية وتكثيف التعاون الدولي مع أكبر مراكز البحث العالمية والشركات الرائدة بأفكارها التطويرية، سيوجد بيئة ابتكارية ومختبرات لدراسة مثل هذه التجارب والابتكارات ما يعزز ويحقق نقلة نوعية في طريقة البدء والتفكير في إيجاد حلول للمشكلات الحالية التي نسعى من خلالها إلى التنافسية والريادة العالمية التي نتطلع إليها جميعا وتتماشى مع توجهات رؤية 2030 التي من أهدافها تعزيز مكانتها الاقتصادية والدفاعية.

 

أ.د.محمد العسيري

Exit mobile version