#آراء | د.يوسف حامد الياقوت يكتب : “دور المؤسسات التربوية ومؤسسات المجتمع المدني في توجيه ودعم الثقافة القانونية”

إن التطورات اليومية في الآونة الأخيرة، والتغيرات السريعة في شتى المجالات المختلفة، وخصوصا في الجوانب القانونية، للأسف، لم يصاحبه تطور ملائم على مستوى الدولة ومؤسسات المجتمع المدني لنشر ثقافته والتوعية به، مما يشكل تحديا كبيرا على كل المؤسسات في كيفية مواكبته، وتهيئة الأجواء لاستيعابه والالتزام به، وهذه فعلا، مسؤولية مجتمعية تقع على الجميع ابتداء من الدولة حتى مؤسسات المجتمع المدني وتتطلب توحيد الجهود وتكثيف المبادرات وتنسيق الأعمال والعمل بجد وإتقان، وبأفضل الوسائل لدعم وتوجيه الثقافة القانونية، ورفع مستوى الوعي القانوني لدى الأفراد لمعرفة ما لهم وما عليهم من حقوق والتزامات، وتوجيههم نحو احترام القانون والالتزام الطوعي لأحكامه.

لذلك برزت في السنوات القريبة، أهمية كبيرة لمؤسسات المجتمع المدني كعامل رئيسي لعملية التنمية المجتمعية، لأنها تمتلك أساليب أكثر فعالية ومرونة في الاستجابة للاحتياجات التنموية للمجتمع. فهي تعتني وتهتم بالمجالات المختلفة لنشر القيم والفضائل وارساء مبادئ عليا وغرس الآداب والاخلاق الحميدة ، وابراز سمو الانسان وتطويره والحفاظ عليه وتقويم سلوكه، ونشر العلم والمعرفة بين أفراد المجتمع. فغايتها هو خدمة المجتمع، والحفاظ على قيمه وأخلاقه وربطه بالعلوم والمعارف التي تهدف الى نهضته وتقدمه.

ومن المرتقب لها اليوم أن تقوم بأدوار ريادية وأكثر فعالية في الجوانب القانونية بغرس مفاهيم الانضباط والالتزام واحترام القوانين وعدم مخالفتها.

و من المعلوم أن الثقافات تتعدد بتنوع مجالات الحياة، لكن الثقافة القانونية تتميز لأهميتها وخصوصيتها وشموليتها لكل جوانب الحياة وعموميتها، فلا تستثني مجالا ولا فردا فهي تخاطب الجميع، وتكمن الأهمية الأساسية في كون الفرد يعذر لعدم اكتسابه وإلمامه بالمعلومات والثقافات في مختلف مجالات الحياة، لكن الجهل بالثقافة القانونية أو بالقواعد القانونية لا عذر له، فالجهل بالقوانين لا يعفينا من المسؤولية ولا يمنعنا من العقوبة.

ومن هنا تكمن المفارقة، بحيث أن الفرد يمكن أن يتلقى في حياته ومساره التعليمي كل أنواع العلوم والثقافات المختلفة، ويعذر لعدم الالمام بها أو لجهلها .. لكن قد لا يتلقى ولا يتوفر له أي تعليم أو توعية في المجالات القانونية ولكنه يحاسب عليها و لا يعذر أبدا في حال جهله لها.

ولذلك يجب على مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني وبناء على قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون أن تعمل على نشر ودعم وتوجيه هذه الثقافة بطرق علمية و منهجية، ويجب أن تكون البداية في المؤسسات التربوية نظرا لأثرها المهم في تكوين الشخصية.

لكن السؤال المهم هنا : ما هي الثقافة القانونية المطلوب ايصالها وتوجيهها والتوعية بها ؟

بشكل عام، يجب على الفرد أن يعرف الثقافة القانونية للجوانب المهمة في حياته، ويطلع على الاجراءات والقواعد والمبادئ القانونية التي تجعله يتصرف بشكل صحيح، مدافعا عن حقوقه، ومؤديا لواجباته، ومقتنعا بضرورة احترام القانون والالتزام به.

ونرى بأن الحد الأدنى من الثقافة القانونية الواجب معرفتها لكل فرد، يعتمد على سنه ووضعه وموقعه وبقدر المسؤولية التي يتحملها، لأن كفاءة وتميز المواطنين ومساهمتهم في تطوير المجتمع تكون بمدى التزامهم بواجباتهم وقيامهم بمهامهم بكل احترام لضوابط وأحكام القانون.

والآن : كيف يمكن أن تلعب المؤسسات التربوية ومؤسسات المجتمع المدني دورها الفعال في دعم وتوجيه الثقافة القانونية ؟ وما هي العقبات التي تعترضها وما هي أبرز التحديات؟ وما هي آفاق التطوير والاقتراحات المطروحة لتكون أكثر فعالية وانتاجية ؟

قبل التطرق لهذا الموضوع، ينبغي علينا في البداية، أن نشير الى أنه بعد تشخيص الوضع الحالي، اتضح وجود بعض القصور في هذا المجال ويتضح ذلك من خلال عدة نقاط :

– الدور المحدود للمؤسسات التربوية ومؤسسات المجتمع المدني في توجيه ودعم الثقافة القانونية ويرجع ذلك بسبب غياب هذه الفكرة، وأنها ليست من ضمن الاهتمامات والأولويات بالرغم من أهميتها الكبيرة.

– ندرة التشريعات القانونية الداعمة لهذا المجال، ونلاحظ محدودية الأعمال وضعف المساهمات والمبادرات القانونية لهذه المؤسسات، وذلك لعدم وضوح الرؤية والإستراتيجية في هذا المجال.

-غياب فكرة، أن توجيه ودعم الثقافة القانونية تعتبر مسؤولية مجتمعية ، تتحملها كل المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني كل في مجاله وتخصصه، ولا بد من التعاون والشراكة والتكامل لتحقيق هذا الهدف.

-عدم استشعار،أن نشر الثقافة القانونية تعتبر، من القيم العليا والمبادئ السامية لخدمة المجتمع، فينبغي أن يتم التجرد لهذا العمل بإخلاص وتفاني، وأن يعي الأفراد والمؤسسات أنها ليست وسيلة للوصول الى غايات وأهداف ومصالح شخصية.

-عدم وجود الحوافز الكافية لتنشيط هذا العمل والعناية به.

-نلاحظ بأن مؤسسات المجتمع المدني لا تخضع لأي قانون ينظم عملها في تحقيق الأهداف التي ينبغي أن تحققها، بالاضافة الى ضعف الدور الاشرافي من قبل الدولة على هذه المؤسسات بالرغم من وجود قانون ينظم عمل جمعيات النفع العام.

– غياب الأهداف القانونية لأعمال جمعيات النفع العام.

-يلاحظ على المادة 25 من قانون رقم 24 لسنة 1962 في شأن الأندية وجمعيات النفع العام ، أنها قصرت المساهمة في تمويل الجمعيات بالشروط التي تضعها اللجنة المختصة بالوزارة، ومنها قيام الجمعية بمزاولة نشاط يسد فراغا في وجوه الرعاية الاجتماعية أو الثقافية للنهوض بالمجتمع، وأيضا عند خدمة المجتمع المحلي من النواحي الاجتماعية أو الثقافية أو الرياضية أو الدينية. وللأسف لا نجد من بينها المجالات القانونية.

-نلاحظ أن العمل القانوني يتمركز غالبا في جمعية المحامين ويقع العبئ عليها ، ولذلك يجب أن يكون هناك دعم لتأسيس المزيد من المؤسسات الداعمة لهذا المشروع، وأن يكون هناك تعاون وتنسيق بينها لتحقيق الهدف المشترك الذي يعود على الجميع بالخير والفائدة.

– الخدمات القانونية في الغالب الأعم تقدم بمقابل مالي، فعلى سبيل المثال موقع الكويت اليوم القانوني ليس بالمجان وانما يستلزم الاشتراك به للحصول على القوانين والتشريعات والأحكام القضائية، وهذا بلا شك يتعارض مع فكرة نشر الوعي القانوني لجميع افراد المجتمع.

-نشاهد قلة البرامج القانونية ، واذا وجدت فآلية طرحها تكون بصورة تقليدية وغير مشوقة، وعادة ما تكون ثقيلة وغير مبسطة ويغلب عليها الجوانب التخصصية.

ما هو الحل: في البداية يجب فهم الواقع بشكل جيد، ثم تحديد احتياجاته، ومن ثم محاولة تغيير الواقع من خلال تفعيل أعمال المؤسسات المدنية لكي تقوم بدورها المنشود وتلبي جميع الاحتياجات الضرورية بنشر الوعي وتوجيه الثقافة القانونية لجميع أفراد المجتمع.

وفيما يتعلق بآفاق التطوير والاقتراحات، فإني أضع مجموعة من الأفكار لتحقيق هذا الهدف :

– على مستوى المؤسسات التربوية، لا بد من وضع رؤية وخطة استراتيجية لتكون هذه المؤسسات هي المنطلق الرئيسي لبرامج التوعية القانونية للاطفال، ولتحقيق ذلك، يمكننا عرض مجموعة من الاقتراحات تتمثل بداية في ضرورة ادخال مفاهيم وأفكار قانونية في المناهج للمراحل الدراسية الأولى تهدف الى غرس حب القانون والالتزام به طوعيا، وتحمل توجيهات غير مباشرة لضرورة احترامه وعدم مخالفته، ويكون ذلك عن طريق القصص الهادفة التي تتناول مواضيع هامة كقوانين المرور والصحة العامة والبيئة والحفاظ على حقوق الجار وبر الوالدين وغيرها.

وكذلك يجب أن توضع مناهج لدراسة الثقافة القانونية في مراحل التعليم المختلفة، عن طريق دمج العامل الأخلاقي والعلمي مع القانوني، بحيث يمتزج التعليم مع القيم والمبادئ التي تعزز احترام القانون، ويعطى الطفل معلومات قانونية تتناسب مع سنه وفهمه وأن تتدرج في محتواها من مرحلة لأخرى حتى يصل الطالب للجامعة، ومعه المبادئ والمفاهيم القانونية الهامة للمعاملات، ويعرف بأن كل حق يقابله واجب، وأن حريته تنتهي عند حرية الآخرين، بشرط أن لا يكون هذا التعليم بطريقة التلقين أو الحفظ ولكن بطرق ابداعية جديدة ومحببه وغير مباشرة وتعتمد على الحوار والتفاعل الايجابي بين المربي وتلاميذه.

– لكي تنجح رسالة نشر الثقافة القانونية في المؤسسات التربوية، يجب أن تؤمن الادارة التربوية بالفكرة ذاتها، وأن تترجم الى واقع عملي، وأن يكون المعلم قدوة في تعاملاته وتصرفاته وانضباطه، لان فاقد الشيء لا يعطيه، ولكي يؤمن بالفكرة ويتشربها، فلا بد من تأهيله وتدريبه على الثقافة القانونية، فالمعلم ينعكس دوره على جميع طلبته ، فإذا افتقد المعلم الوعي القانوني، فلن يخرج الى المجتمع سوى جيل عاجز عن الالتزام بواجباته، والمطالبة بحقوقه، ويتفشى الشعور بالامبالاة وعدم تحمل المسؤولية.

-انشاء ادارة في المؤسسات التربوية على مستوى المحافظات، تتكون من أعضاء يكون من ضمنهم رجل قانوني متخصص، وتعتني بالتوعية القانونية داخل المؤسسات التربوية، عن طريق اقامة المحاضرات و الندوات والمسابقات واللقاءات وتنظيم المعسكرات الكشفية التي من شأنها أن تساهم في حب القانون والالتزام به وتعزز مفاهيم الانضباط والتعاون، وتكون مسؤولة كذلك عن تفعيل فكرة الشرطة المجتمعية بين الطلبة بحيث يتم تشكيل لجنة لتلقي الشكاوى الناتجة عن مخالفة القوانين ويكون لها الحق في الردع والزجر وتوقيع العقوبات على المخالفين.

– تسخير السينما والمسرح في نشر الثقافة القانونية، عن طريق حث المنتجين والمخرجين، بأن يضعوا فكرة احترام القانون وتطبيقه هدف من أهدافهم، عن طريق ابراز دور القانون في المجتمع، وما هي عواقب مخالفته، وتكريس العديد من المفاهيم القانونية الهامة للافراد، والتركيز على أن مخالفة القانون تعتبر خيانة للمجتمع.

وأما ما يتعلق بالآفاق التطويرية لمؤسسات المجتمع المدني :

-في البداية، لا بد من تغيير وتطوير الفكر القاصر، بأن دور نشر الثقافة القانونية يقتصر على الدولة، لكونها هي المسؤولة عن تحقيق هذا الهدف، يجب تغيير هذا المفهوم عن طريق تعزيز الشراكة المجتمعية، وتوسيع نطاق المسؤولية، بحيث تساهم كل المؤسسات في القيام بهذا الدور كل حسب تخصصه واهتماماته، مع ضرورة التعاون وتوحيد الجهود للوصول الى الغاية وتحقيق الهدف.

– نحن بحاجة الى تطوير القوانين والتشريعات لكي تساهم في دعم و تعزيز هذا الدور، بحيث يتم فرض التزام قانوني، على مؤسسات المجتمع المدني في القيام بنشر الثقافة القانونية في المجالات المتعلقة بعملها، ويتم الاشراف عليها من قبل الدولة لتحقيق هذا الهدف، ومن المفترض، أن تكون هذه المؤسسات أكثر حماسة و فاعلية، وأن تمسك بزمام المبادرة، في تحقيق هذا الهدف، لأن قيامها بهذا الدور، يعتبر من أهدافها وغاياتها الرئيسية، لكونها وجدت لخدمة المجتمع.

-على الدولة أن تضع ميزانية خاصة، كدعم مادي ومعنوي لمن يساهم في التوعية القانونية ، ويضعها ضمن أهدافه ومن صميم عمله.

-انشاء ادارة أو قسم قانوني في الجمعيات المهنية ضمن الهيكل التنظيمي، يهتم بالجوانب القانونية المتعلقة بها، لأن جميع المهنيين، من المهندسين والأطباء والمحاسبين وغيرهم يتعاملون مع القانون بشكل يومي، فيكون من اختصاص هذي الادارة، تثقيفهم قانونا عن طريق الدورات التدريبية ونشر الوعي القانوني المتعلق بالتشريعات واللوائح والنظم الخاصة بأعمالهم وأنشطتهم.

-العمل على اعلاء شأن القانون في أوساط المجتمع عن طريق وضع الاعلانات للتوعية القانونية في المجمعات والمدارس والسينما وكذلك خلف تذاكر مباريات كرة القدم – السينما –الطيارة الخ.. مثل ( ان مخالفتك للقوانين هي خيانة لمجتمعك ) وغيرها ..

-العمل على خلق بيئة تنافسية، للتوعوية القانونية، عن طريق تأسيس جمعيات قانونية تخصصية، ذات نفع عام بجانب جمعية المحامين، تعتني وتهتم بنشر وتوجيه الثقافة القانونية، اضافة الى قيامها بكل الأدوار والخدمات القانونية لأفراد المجتمع، من مساعدة قضائية، وتقديم الاستشارات، وكتابة العقود ومراجعتها، واقامة الدورات والندوات وتنظيم المؤتمرات الخ…

-أن تعمل هذه المؤسسات على توعية مسبقة لمشاريع القوانين قبل صدورها وعند صدورها كذلك، لكي يتعرف عليها الفرد ويستوعبها، لأن في حالة تطبيقها مباشرة دون العلم بها، من شأنه أن يؤدي الى زيادة المخالفات، بسبب جهلها وعدم الالمام بأحكامها وشروطها.

-أن تساهم هذه المؤسسات، بتأسيس مجاميع عمل شبابية من أجل القانون تهدف الى تجميع الشباب وتوعيتهم بالقانون ضمن مجموعة من الفعاليات المجتمعية في الجوانب القانونية التي تصب في خدمة المجتمع.

– وفي الختام ولكي تستمر الكويت في تقدمها وازدهارها، وتحظى على الريادة، وتأخذ السبق في المجالات القانونية، يجب أن تولي اهتماما كبيرا جدا في التفكير في كيفية العمل على توجيه ودعم الثقافة القانونية وتوصيلها بشكل مبسط ومرن فعال لجميع فئات المجتمع وشرائحه وطبقاته المختلفة. وهذا بلا شك يعتبر تحديا يجب مواجهته.

د.يوسف حامد الياقوت

استاذ القانون الخاص في كلية الحقوق بجامعة الكويت

Exit mobile version