يخبرني أحد الرؤساء التنفيذيين اللامعين لشركة سعودية، أنه لم يدرك فاعلية التعامل مع 26 جنسية تعمل معه، حتى تعمق في فهم الاختلافات بين الثقافات. فذهب إلى أفضل البرامج في أشهر الجامعات، ليفهم كيف يعامل الموظفين من شتى بقاع العالم. العلم الحديث يشير إلى أن اختلافات الشعوب في سلوكياتها وتواصلها ليس «صورة نمطية» نسقطها على من نكره أو نحب؛ بل نحن بالفعل مختلفون بصورة واضحة.
هناك شعوب تسمى متجانسة، مثل الشعوب الخليجية، مع تفاوت لا يكاد يلحظه القادم من قارات أخرى. ومن أشهر الكتب «خريطة الثقافة» أو «the culture map» الذي يصور لنا فيه الباحث إيرين ماير 8 أفكار أساسية، منها أنه يرى أن تحلي المرء بالمقدرة الجيدة على الملاحظة هو في أحيان كثيرة أكثر أهمية من المقدرة على التحدث.
ففي الملاحظة نكتشف عمق الاختلافات وردود الفعل وكيفية التعامل معها. وقد وجد عالم الأنثروبولوجيا الشهير إدوارد تي هال، في أبحاثه وكتابه «ما وراء الثقافة»، أن الشعوب: الصينية، والعربية، والأفريقية، واليونانية، والمكسيكية، والإسبانية، تختلف أنماط تواصلها، مقارنة بشعوب مثل: الألمان، والاسكندنافيين، والأميركان، والإنجليز، والفرنسيين، والإيطاليين. بعبارة أخرى: تبين أن الشعوب تقع في دائرتين للتواصل مختلفتين، تعكسان نمط تواصلهما: الأولى ما يطلق عليها «ثقافة السياق المنخفض» «low-context culture» (من الألمان حتى الإيطاليين)، والتي عادة ما تحدد بوضوح ما هو المتوقع من الطرف الآخر، وتسعى إلى كتابة حواراتها إن كان ذلك ممكناً، وتمتاز اتفاقاتها مع الناس بأنها مكتوبة.
ويقف على النقيض شعوب «ثقافة السياق المرتفع» مثل مجموعة العرب والصينيين والأفارقة وغيرهم، إذ يميلون إلى العمومية في طلباتهم، ويرتكزون على مبدأ الثقة أكثر من الأمور المكتوبة. ولذلك قد تدب الخلافات أو سوء الفهم أكثر بينهم، مقارنة بالتعامل مع الغربيين الدقيقين في طلباتهم. ولذلك فإن الحل الأمثل في التعامل مع الشعوب من جنسيات مختلفة، يكمن في التوازن بين الإنصات والتحدث إلى أحدهم.
وعليه، عندما نتحدث مع شعوب «السياق المنخفض» (الغربيين ومن لف لفهم)، فيتوقع منا أن نولي اعتباراً لتغير لغة الجسد، وحركة الرأس، وأي بادرة نفور شخصي من الرسالة التي نحاول إرسالها.
على سبيل المثال: عندما يوجه مدير أميركي رأيه تجاه عمل مرؤوسه العربي الشاب، فهو يرى أنه يقدم «تغذية راجعة» مفيدة «feedback»، في حين قد يعتبرها الشاب العربي «نقداً» أو انتقاصاً من رجولته أو مكانته. وكذلك الحال في «المواجهة الحادة في النقد» «confrontational disagreeing»، فعندما تشاهد فرنسياً قد احتدم نقاشه مع مواطنه، فذلك لا يعني خدش وشائج الصداقة بينهما. بعبارة أخرى: يقل «منسوب الشخصنة» لديهم مقارنة بالشعوب الأخرى. وعلى النقيض نجد الإندونيسيين واليابانيين يتجنبون الخلافات العلنية. ويُعتبر الألمان والفرنسيون -على سبيل المثال- من الشعوب المستعدة للمواجهة الحادة؛ لكنهم يختلفون في طريقة الاختلاف.
ولذلك، يمكن تقليل تداعيات الانتقادات والمواجهات، بملاحظة كيف تمهد الشعوب للنقد. ففي عالم السياسة -مثلاً- يجتمع وزراء الخارجية للتمهيد لاجتماعات القمة، عبر حل المشكلات العالقة قبل قدوم الزعماء. وكذلك الحال في بعض الإدارات الصغيرة التي لا يتقبل المديرون فيها انتقادات علنية لاعتبارات ثقافية. وكما يقول الشافعي:
تَعَمَّدني بِنُصحِكَ في انفِرادي
وَجَنِّبني النَصيحَة في الجَماعَه
فَإِنَّ النُصحَ بَينَ الناسِ نَوعٌ
مِنَ التوبيخِ لا أَرضى استماعَه