د.محمد النغيمش: الطاولة المستديرة

تعد الطاولة المستديرة الشكل الهندسي الوحيد الذي يعطي جميع الجالسين حول محيطها مقداراً متساوياً من التقدير، بعكس المستطيل الذي يمنح الجالس جهة الضلع الأصغر وجاهة أكبر توحي بأنه يقود الاجتماع! ولذلك يجلس الزعيم أو القائد في طرف المستطيل ليرى الجميع ويدير حواراتهم. ويجلس المتفاوضون على جانبي المستطيل لاعتبارات «الندية». ولأن الدائرة هي الشكل الوحيد الذي تتساوى فيه مسافة قطرها من جميع النواحي، جاءت فكرة المائدة المستديرة، وطاولات المؤتمرات الدولية، والأمم المتحدة، التي تعطي الجميع مكانة متساوية. ولذا أرى أنها مناسبة لاجتماعات حل المشكلات، أو ترميم العلاقات المتصدعة.

ويروى أن مصطلح «الطاولة المستديرة» قد أطلقه الملك آرثر في القرن الخامس الميلادي، حيث كان يجمع في مقر حكمه الوجهاء والفرسان لاستطلاع آرائهم في شؤون بريطانيا العظمى على طاولة مستديرة. روعة الدائرة، أنها تذكرك بأن «الحياة دوارة»، وبأنه «على الباغي تدور الدوائر» و«يوم لك ويوم عليك». فإذا ما استأسد أحدهم في منصبه فسيأتيه يوم «التدوير الإداري» لا محالة. ولذلك أطلقنا في بواكير العمل الإداري بمنطقتنا، اسم «المديرية» على الإدارة، ربما على اعتبار أنها مناصب تدور بين الكفاءات لتولي قيادتها. لا ينبغي أن يستأثر أحدٌ بمنصبه مدى الحياة. وعندما تنضم إلى بيئة عمل تُؤخذ إلى دورة ثم تعود إلى مكانك لنرى فيها قدراتك على أرض الواقع. هنا يتمايز الناس.

ومهما «دار» المرء وجال في أرجاء العمل، فلا يعني ذلك أنه أكثر إنتاجية. فهناك «جعجعة بلا طحين».ولولا الدائرة لما اكتشفنا بكرات الخياطة، ومكائن الغزل، والخواتم، والأقواس وفوهات البنادق. ولولا الدائرة لما اكتشفنا العجلة التي حلّقت بنا في الآفاق جواً وبراً وبحراً، ولما فكر الصينيون بشق قطاراتهم طريق الحرير من قلب بكين إلى أقاصي الشرق والغرب. والدائرة في حركتها مسالمة لا تتصادم مع أحد فليست بها زوايا حادة. وقد ألفنا الدائرة منذ فجر البشرية، ونحن نتأمل البدر ليلة كماله. ويحن البشر إلى دفء الشمس فترسل أشعتها بعدالة إلى شتى أرجاء المعمورة. الكرة الأرضية بأسرها، دائرية وهي تحتضننا جميعاً بكل اختلافاتنا وصراعاتنا وانتهاكاتنا لتلك البيئة النقية.

فنحن الذين نوسع ثقب الأوزون، ونلوث الأجواء، ونهدم، ونحرق، وما زالت تحملنا الأرض بصدر رحب. ومن نعم الله تعالى دائرية الأرض فلو كانت مربعة، فسوف يحظى جانب منها بنور أكبر على حساب آخر، كأنها رسالة ربانية، بأنه أمام الجميع فرص متساوية لإعمار الأرض بالجد والاجتهاد. كم نحن بحاجة إلى الاقتداء «بقلب الدائرة» الحكيم (مركزها) الذي يقف على مسافة متساوية من الخصوم (محيطها)، كأنه يبحث عن الحقيقة قبل توجيه أصابع الاتهام.

د.محمد النغيمش

Exit mobile version