تحددت نظرية عبدالقاهر لجدلية اللفظ والمعنى من خلال اهتمامه بالنظم القائم على توخي معاني النحو فيما بين الكلم، لذا فإنه لا يعطي للكلمة المفردة مزية أو فصلا إلا بعد أن تأخذ مكانها في النظم والتأليف، فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي يكون بها الكلم إخبارا وأمرا ونهيا واستخبارا وتعجباً، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة وبناء لفظة على لفظة، هل يتصور أن يكون بين اللفظين في الدلالة حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ماهو موسومة به.
وهل يقع في وهم وإن جهد أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم،بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية، أو تكون حروف هذه أخف وامتزاجها أحسن ، ومما يلد اللسان أبعد ذلك؟ وهو يلح على تلك الفكرة، ضاربا على المثل في القران والشعر فيرى أن مرد الحسن والفضيلة في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي وغيض الماء، وقضي الأمر واستوت على الجودي قيل بعدا للقوم الظالمين).(1)
لا يكون إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وإن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقر بها إلى آخرها وأن الفصل ناتج (مما) يينهما وجعل من مجموعها ثم يتساءل: هل ترى لفظة بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة مما تؤديه وهي في مكانها من الآية ؟ قل : ابلعي واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها وكذلك فاعتبر سائر ما يليها.
أما الذي يجدد فصاحة الكلمة فهو النظم في التراكيب الذي يقع بفعل المتكلم أو المبدع لا بفعل واضع اللغة،وذلك أنهم وإن كانوا قد جعلوا الفصاحة في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ فإنهم لم يجعلوها وصفا له في نفسه ، ومن حيث هو صدى صوت ونطق لسان ولكنهم جعلوها عبارة عن مزية أفادها المتكلم في المعنى، غير أنه لا يأبى أن تكون مذاقه الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فما يوجب الفضيلة وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز الذي ينكره ويشنعه أن يجعل ذلك معجزا به وحده ويجعله الأصل والعمدة فيخرج إلى ما ذكرنا من الشنيعات وبهذا لا يكون للفظة المفردة مزية أو ضل إلا في مذاقه حروفها وسلامتها من الثقل والتنافر وحتى هذا لا يتحقق لها إلا بفعل المبدع في نظمه وتركيبه القائم على توخي معاني النحو.
أما المعنى فهو ما يلح عليه عبد القاهر إلحاحا، هو لا يقصد بالمعنى مدلولات الألفاظ المفردة أي المعاني القاموسية أو دلالية ، ولا المعنى الذي هو قسم اللفظ والذي يذهب إليه أنصار المعنى وإنما المقصود به معاني النحو أو النظم القائم على توخي تلك المعاني.(2)
وليت شعري ، كيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى ؟ معنى القصد إلى معاني الكلم أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه، ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه لها، فلا تقول : خرج زيد لتعلمه معنى خرج في اللغة وعنى زيد كيف ؟ ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف ولهذا لم يكون الفعل وحده من دون الاسم فلا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل كلاما، وكنت لو قلت خرج ولم تأت باسم ولا قدرت فيه ضمير الشيء عليه بالألفاظ. دون الألفاظ أنفسها ولا يخفى ما في هذا من طرافة، والمغالاة أيضا.(3)
الدكتور نور الدين بلجة
(1) سورة الآية 44
(2) محمد سلطاني: معالم في تاريخ البلاغة العربية، دار المحبة دار آية، ط 2 ،2000، ص 24
(3) المرجع نفسه ص 25