في بحث قدّمه جيمس هاوس عدَّ فيه العزلة الاجتماعية خطرًا على الإنسان حيث قال: «يمكن مقارنة حجم المخاطر المرتبطة بالعزلة الاجتماعية بمخاطر تدخين السجائر وغيرها من عناصر المخاطر الطبية البيولوجية والنفسية الاجتماعية الرئيسية».
ومازال علماء النفس والباحثون الاجتماعيون يُحذّرون من الاعتزال ويُؤكدون على إصابة أصحابه بأمراض نفسية خطيرة حيث أشار الأخصائي النفسي والمعالج السلوكي «أحمد السعيد» إلى أن من أهم عوارض الاكتئاب العزلة الاجتماعية ويؤكد على ضرورة انتزاع الإنسان من مخالبها الفاتكة بالمريض.
وبينما يتفاوت البشر في حبّهم لمخالطة الناس أو اعتزالهم فإننا نستطيع وضعهم في موازين مُتكافئة بمقدار مُخْرجاتهم من العزلة أو الاختلاط.
ممالاشك فيه جمال معاشرة الناس وحبّهم، والاندماج بأفراحهم وأحزانهم وقضاء حوائجهم حتى مع مايحمله هذا الامتزاج ببعض المتاعب، يقول الرَسُولُ الأعظم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ».
بعضهم يُسعدك بحديثه تَصْحَبُك أفكاره، ترى من خلالها الكون المشهود جمالا، تُحبُّ مخالطته لأنه يُلوّن وجه حياتك لتبدو فارهة النّقاء، تلتصق بيديك بقايا عطره يُهديك خيالا خصبا تُخاطب به البحر، السّماء، الزهور.
وتبقى العزلة محراب الذات تُلهم العقول، وتُرسي أفكارنا بهدوء عند شواطىء الجمال لنُخرج أجمل ماعندنا.
إن اعتزال الناس سنّة بشريّة يحتمي به العقلاء، يفكرون، يخططون، ثم يُبْدعون. وغاية اعتزالهم الوصول لأهداف كبرى وإبهار أنفسهم بنتائج مذهلة كانت ثمن ذلك الاعتزال
وهذا ما يحدث للباحثين وطالبي العلم فقد تَطول عزلتهم وتحفّهم بركة الوقت ليدفنوا أرواحهم بين بطون العوالم المختلفة بحثا وتنقيبا عن كل جديد، وما يلبث أن يتلاشى وجودهم بيننا ليظهروا بلباس جديد يعلوه جمال اليقين وتسكنه المعرفة ويقوده قُطب الإدراك. ومايزالون مؤمنين بهذا الحديث الذي يتردد صداه في أعماقهم:
«لايزال العلم يحبو ولم يصل بعد إلى اليقين ولم يقل كلمته الأخيرة في كثير من المسائل النظرية»
وبينما تزعجنا رؤية الهياكل والجماجم البشرية المتقادمة يراها المعتزلون للعلم مَدْرَج للمعرفة والتطور العلمي.
يقول الحق في كتابه الكريم:
«فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا»
بعض الكلمات الجميلة نِتاج العزلة وبعضها يَخطّه القلم كاشفا ماوراء القلب أثناء انفراده. ولي مع أرفف مكتبتي حديث شيّق أتبادل مع ساكنيها الحوار وأنشد الخلاص من بعض النماذج التي تخدش الروح لينفخ أحد الكتّاب في روحي الجمال ولا أرى نفسي إلا مُعتزلة الناس في أحضان كتبي.
ليلى الزاهر